العراق يسجل أكبر خسارة استثمارية منذ 9 أعوام.. والآمال تتعلق بتدفقات جديدة

في تطور يعكس عمق التحديات الاقتصادية التي يواجهها العراق، سجّل عام 2024 صافي خسارة غير مسبوقة في تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بلغت نحو 7.4 مليار دولار، وفقًا لبيانات تحليلية حديثة.
الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العراق
وتُعد هذه الخسارة الأعلى منذ عام 2014، عندما خرجت من البلاد استثمارات بقيمة 10 مليارات دولار على خلفية الانهيار الأمني عقب سيطرة تنظيم الدولة على مدينة الموصل ومناطق واسعة من الشمال العراقي.
ويأتي هذا التراجع ضمن سلسلة ممتدة من الانسحابات الاستثمارية، حيث لم يسجل العراق أي تدفقات موجبة منذ عام 2012، في ظل بيئة اقتصادية مشحونة بالمخاطر السياسية والأمنية، إلى جانب ضعف البنية التشريعية والمؤسسية، وتفشي الفساد، وهي عوامل مجتمعة أدت إلى طرد الاستثمارات بدلًا من استقطابها.
عقد من النزيف الاستثماري
شهدت البلاد في بداية العقد الماضي مؤشرات واعدة نسبيًا، مع تدفقات إيجابية وصلت إلى 3.4 مليار دولار في عام 2012، وهو أعلى رقم تسجله بغداد منذ الغزو الأمريكي عام 2003، غير أن هذا التعافي لم يصمد طويلًا.
ففي العام التالي، بدأت الاستثمارات الأجنبية في التراجع الحاد، حيث سجّل الاقتصاد خروجًا بقيمة 2.3 مليار دولار، تلته خسارة فادحة بلغت 10 مليارات دولار في عام 2014، إيذانًا بدخول العراق في عقد كامل من الانكماش.

خلال الفترة من 2014 حتى 2024، خرج من العراق ما يزيد عن 60 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية، بمعدل سنوي يتراوح بين 2.5 و7 مليارات دولار.
وهي خسائر تراكمية تجعل العراق أحد أكثر الاقتصادات تراجعًا في جذب رؤوس الأموال الأجنبية بالمنطقة، مقارنة بجيرانه الذين يشهدون موجات متتالية من الاستثمارات في قطاعات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا.
واقع مرتبك.. وبيئة طاردة
يعزو الخبراء هذا الانهيار المتواصل إلى حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي طغت على المشهد العراقي منذ عام 2013، وما تبعها من صراعات مسلحة، وتعاقب حكومات غير مستقرة، وعجز في فرض سيادة القانون.
كما ساهم الفساد المستشري وغياب بيئة تشريعية جاذبة في ضرب ثقة المستثمرين، الذين وجدوا في العراق بيئة عالية المخاطر، غير قادرة على توفير الحد الأدنى من الضمانات القانونية والتمويلية والتشغيلية.
ودفعت هذه الظروف عشرات الشركات العالمية إلى إيقاف توسعاتها، أو الانسحاب الكامل من السوق العراقية، خاصة في قطاعات الطاقة والاتصالات والخدمات المالية.
ومع ضعف القطاع الخاص المحلي، وعدم قدرته على ملء الفراغ، تعمقت الأزمة الاستثمارية بشكل جعل العراق يعتمد بشكل شبه كامل على الإنفاق الحكومي الممول من النفط.
بصيص أمل.. تقوده شركات مصرية
رغم الصورة القاتمة، بدأت تظهر بعض الإشارات المحدودة على بداية تحوّل محتمل، فخلال العامين الماضيين، أعلنت شركات دولية اهتمامها بالعودة إلى السوق العراقية، تحديدًا في قطاع التطوير العقاري، الذي يُعد الأقل تعقيدًا من حيث المتطلبات الأمنية واللوجستية.
وكان لافتًا دخول شركتين مصريتين إلى هذا المضمار، هما مجموعة طلعت مصطفى القابضة وشركة أورا للتطوير العقاري المملوكة لرجل الأعمال نجيب ساويرس، حيث تستعدان لإطلاق مشروعات عمرانية كبرى في بغداد، تشمل مجتمعات سكنية متكاملة، بالتعاون مع جهات حكومية عراقية.
وتأتي هذه المشروعات في وقت يحاول فيه العراق سد فجوة الإسكان التي تقدر بنحو 2 مليون وحدة، في ظل ارتفاع سكاني متسارع، وتراجع حاد في إنتاج الدولة من الوحدات السكنية خلال العقد الماضي.
إصلاحات معلنة.. واختبار التنفيذ
في المقابل، تسعى الحكومة العراقية إلى طمأنة المستثمرين عبر تبني برنامج إصلاح اقتصادي وتشريعي يتضمن تحديث قانون الاستثمار، وتسهيل منح التراخيص، وتأسيس منصة رقمية موحدة لتسجيل الشركات.
كما تَعِد الحكومة بإطلاق مناطق اقتصادية خاصة تُدار وفق آليات مرنة، وتتمتع بإعفاءات ضريبية وجمركية، في محاولة لمحاكاة التجارب الإقليمية الناجحة مثل السعودية والإمارات.
لكن هذه الإصلاحات ما زالت في طور الإعلان، دون نتائج ملموسة على أرض الواقع. ويُجمع المراقبون على أن نجاح الحكومة في استعادة ثقة المستثمرين مرهون بقدرتها على تطبيق هذه السياسات وليس الاكتفاء بتكرارها إعلاميًا.
بغداد بين الفرصة والمخاطرة
رغم كل ما سبق، ما يزال العراق يحتفظ بمقومات استثمارية كبيرة، على رأسها موقعه الجغرافي الرابط بين آسيا والخليج وبلاد الشام، إضافة إلى موارده الطبيعية الغنية، وسوق استهلاكية تزيد عن 40 مليون نسمة.
ويؤمن بعض المحللين أن العراق قد يشهد تحولًا اقتصاديًا فعليًا إذا ما نجحت السلطة في تحقيق الاستقرار السياسي والمؤسسي، ومحاربة الفساد، وتوفير بيئة تشريعية عادلة، وهي شروط لازمة لجذب المستثمرين من جديد بعد سنوات طويلة من التراجع.
لكن ما لم يتحول هذا الإدراك إلى سياسات واضحة تُنفّذ فعليًا، فقد يبقى العراق رهينة لاقتصاد ريعي هش، يعتمد على عوائد النفط، في وقت تتسابق فيه دول الجوار لجذب المستثمرين وتعزيز قطاعاتها غير النفطية.
اقرأ أيضا.. نجيب ساويرس يشهد انطلاق تنفيذ “مدينة الورد” في العراق بحضور نجوم الفن المصريين