مزرعة رياح جبل الزيت في عين العاصفة
عاصفة من الجدل ضَربت مزرعة رياح جبل الزيت مطلع الأسبوع الحالي، ليس حول جدوى إنشائها، وفائدة التمويل الذي حصلت عليه الحكومة لتنفيذها، بل هذه المرة حول سعر بيعها.
إذ وردَت المزرعة في تقرير المُراجعة الثالثة المُقدم من خبراء صندوق النقد الدولي للاقتصاد المصري، في إطار اتفاقية تسهيل المُدد بينهما، وذلك ضمن مخططات الحكومة لطروحات الشركات العامة، حيث أورد التقرير أنه من المتوقع بيعها بنحو ٣٣٩ مليون دولار.
وعلى الرغم من أن تقرير الصندوق أشار بوضوح تام إلى أن الرقم الوارد في تقريره هو توقع مبدئي، وأنه لم يُحدَّد مُشترٍ بعينه للمزرعة ولا لشقيقتها في الزعفرانة، إلا أن مروجي الشائعات استغلوا اسم المزرعة لإثارة جدل قائم على أن سعر البيع يقل عن سعر الإنشاء بأكثر من ١٤٠ مليون دولار، ما يُظهر فساداً واضحاً للحكومة إما في عملية البيع أو في عملية الإنشاء.
قبل صدور هذا التقرير بنحو أسبوع كانت وزيرة التخطيط قد أجرت لقاءاً سريعاً مع قناة الشرق الإخبارية، انصبَّ أساساً على برنامج الطروحات الحكومية، تعرَّضت فيه الوزيرة لمزرعتي جبل الزيت والزعفرانة، مُعلنة أن الحكومة في مرحلة مُتقدمة من بيع “حصص” في المزرعتين، وأنها تلقَّت عروضاً من عددٍ من الشركات العالمية تقوم أحد بيوت الخبرة الأوروبية بتقييم جبل الزيت والزعفرانة، لاختيار أفضلها، ولم تأت الوزيرة إطلاقاً على ذكر بيع كامل المزرعتين من قريبٍ أو بعيد، ولم تذكر قُرب اختيار أحد البدائل، ولا السعر المُقَرر، ولا حتى الحصة المُقَرر التنازل عنها، بمعنى أوضح أننا أمام نية للحكومة وليست صفقة بمعناها الدقيق، ولا حتى بدايات صفقة، ورغم ذلك تعمَّد أعداء الوطن إثارة أكبر قدر ممكن من البلبلة حول قصة جبل الزيت، وهو سلوك غير عشوائي، بل مقصود ومُخطط جيداً.
تتمتع مزرعتين جبل الزيت والزعفرانة بمكانة فريدة ضمن مشروعات الدولة لإنتاج الطاقة المُتجدِّدة، وذلك من حيث حجم الإنتاج إذ يُنتجا معاً أكثر من ١.١ جيجا وات، بالإضافة إلى موقعهما قُرب خليج السويس في واحدة من أفضل مناطق إنتاج الرياح في مصر، إن لم يكن في العالم، ليس فقط بسبب الرياح القوية المُستمرة طوال العام، بل لكونها في مدخل قناة السويس، في منطقة العين السُخنة، التي باتت محلاً لأكبر مشروعات العالم -بلا أيّة مُبالغة- لإنتاج الهيدروجين الأخضر، والأمونيا الخضراء، سواء لبيعهما كوقود للسفن أو كمُدخلات صناعية، أو حتى وقود خام للاستخدام المُباشر، ما يمُثل لمصر “القطاع الأمل” لتحويل الاقتصاد المصري من مُستهلك صافي للطاقة، إلى مُصدِّر عملاق، ففي مصر لا أوسع من الصحاري ولا أطول من البحار.
تُدرك الشركات العالمية هذه الحقائق جيداً، ولذلك حصلت منطقة العين السُخنة على أكبر قدر من الاستثمارات الأجنبية المُباشرة، وقبل مشروع رأس الحكمة كانت أفضل منطقة جاذبة للاستثمار في البلاد، سواء في مشروعات الرياح أو الهيدروجين الأخضر بما يصل إلى ١٥ مشروع لإنتاج الهيدروجين والأمونيا، من مزارع رياح قد تتجاوز قيمتها الإجمالية ٢٥ مليار دولار.
فعلى سبيل المثال فقط، في نوفمبر ٢٠٢٣ وقَّع تحالف مصري سعودي مُكوَّن من أكوا باور السعودية وحسن علام المصرية اتفاقية لإنشاء مزرعة رياح بقدرة 1.1 جيجاوات في خليج السويس مطلع العام المقبل، باستثمارات قيمتها ١.٥ مليار دولار، ينتهي العمل فيها خلال ثلاث سنوات، وتنُفّذ على مرحلتين.
في ديسمبر من ذات العام وقَّعت شركة أكوا باور منفردة اتفاقية إطارية لتنفيذ مشروع لإنتاج الهيدروجين الأخضر في المنطقة باستثمارات لا تقل عن ٤ مليارات دولار.
قبل الاتفاقية الأخيرة بشهرين كانت الحكومة قد وقَّعت اتفاقية إطارية مع شركة الميثانول الأخضر ” سي 2 إكس ” التابعة لميرسك الدانماركية لإنتاج الوقود الأخضر في ذات المنطقة. باستثمارات تصل إلى ٣ مليارات دولار في المرحلة الأولى للمشروع، وأردفتها الحكومة باتفاقية مع سكاتك النرويجية بقيمة ١.١ مليار دولار مع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس لتزويد السفن التي تمر عبر القناة بالوقود الأخضر.
هذه الاتفاقات المليارية لا تستهدف فقط تصدير الهيدروجين الأخضر، بل تحاول استغلال هذه الطاقة المُتجدِّدة لتحويل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، لمركز عالمي لتداول الحاويات وتقديم الخدمات اللوجستية، وهما مشروعان لا يُغيّران فقط من وضع مصر في المنطقة، بل يُغيّران ترتيب دولِها من حيث الأهمية للاقتصاد العالمي عبر القدرة على التأثير في سوق الطاقة، وطُرق الشحن العالمية، الأمر الذي من المُرجَّح أن يزعج قوى إقليمية لا ترضى لمصر حيازة هذا التأثير.
ذلك التأثير الذي يتضاعف عند النظر بنظرة أوسع لقطاع الطاقة المُتجدِّدة في مصر، والتي من المُنتظر أن تتحول من خلاله لأحد أهم مصادر الكهرباء النظيفة لأوروبا على وجه التحديد.
جديرٌ بالذكر أنَّه الإضافة إلى منطقة العين السخنة وخليج العقبة، تلقَّت مُحافظة سوهاج قدراً وافراً من الاستثمارات في مجال طاقة الرياح، وعلى سبيل المثال كذلك، في مايو ٢٠٢٤، وقَّعت هيئة الطاقة الجديدة والمتجدِّدة اتفاقيتين منفصلتين لتخصيص أراضي لمزرعتي رياح، بإنتاج متوقَّع 8 جيجاوات إجمالاً من الكهرباء في غرب سوهاج الأولى مع شركة سكاتك النرويجية لتطوير مصادر الطاقة المتجدِّدة، والتي تخطط لاستثمار 5.7 مليار دولار لإنشاء مزرعة رياح بقدرة ٥ جيجا وات، والثانية مع تحالف تقوده أوراسكوم مع شركة إنجي الفرنسية وشركة يوروس إنرجي القابضة اليابانية، لإنشاء مزرعة أخرى بقدرة ٣ جيجا وات.
قبلها في ديسمبر ٢٠٢٣، وقَّعت الحكومة اتفاقية أخرى ضمن مُحافظة سوهاج مع تحالف مكون من شركات إنفينيتي باور وحسن علام للمرافق ومصدر الإماراتية للبدء في إنشاء مزرعة رياح بقدرة 10 جيجاوات في الرُبع الأول من عام ٢٠٢٥، على أن يبدأ تشغيل المشروع في عام ٢٠٢٧، بتكلفة إجمالية قد تصل إلى ١١ مليار دولار.
تستهدف هذه المشروعات التصدير إلى أوروبا بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي في مصر، وذلك عبر مشروعات ربط كهربائي مع القارة عبر البحر المتوسط، يصل عدد هذه المشروعات في الوقت الحالي إلى خمس مشروعات، أهمها يورو أفريكا زنتركونتكر الذي يُعتبر في المراحل النهائية، والذي يصل مصر بقبرص ثم إلى اليونان، لتصدير ٣ جيجا وات من الكهرباء النظيفة لأوروبا.
إن الضجة المُثارة حول مشروعات هذا القطاع الضخمة في مصر، تُشكِّل خطراً كبيراً على الاقتصاد الوطني، وتُسعى لإثارة الشكوك حول جدوى هذه المشروعات، ممّا يُهدد بِهروب الاستثمارات، وتعطيل عجلة التقدم.
هذه الحملة تُشبه عاصفة ترابية تُغرق المشروعات في جدلٍ داخلي، يُثير قلق المستثمرين، ويُهدد بتعطيل المشروعات الموقعة بالفعل، ممّا يُتيح للقوى الإقليمية الأخرى مُنافسة مصر، أو حتى التفوق عليها في هذا المجال.
لذلك، لا ينبغي النظر إلى هذه الحملة على أنها مجرد شائعات، بل هي حربٌ اقتصاديةٌ حقيقيةٌ تُشن على مصر، ويجب التصدي لها فوراً بالمعلومات الصحيحة والسريعة، لِحماية الاقتصاد الوطني من مخاطرها، ولضمان استمرار مسار التقدم والازدهار.
إعداد : د. محمد شادى