فن وثقافة

دور الفنون في الإصلاح الثقافي

لعلّ دور الفنون في الإصلاح الثقافي يعدّ من أهم وظائفها، حيث تمثل أداة فعّالة للتوعية والتثقيف، ونشر القيم الإيجابية، وتعزيز التسامح والاحترام بين أفراد المجتمع.

بدراسة العقود الأخيرة وتأمّلها بعمق تتكشف مشكلات حدثت في العلاقة بين القاعدة العريضة من المجتمع وبين الفنون بكل أنواعها. ولهذه المشكلات عواملها ولن أكون مبالغاً لو قلت إنها كانت ممنهجة. وإصلاح هذه المشكلات وإعادة تأكيد فاعلية الفنون لدى الجمهور العام أمر أصبح مفيدًا جدًا وضروريًا في مسار الإصلاح الثقافي والفكري والاجتماعي والتغيّر نحو الأفضل بما يعزز قدرة المجتمع على التفكير العلمي والإنتاج الحقيقي.

العلاقة بين الفنون والفكر والعلم

ليست الفنون بعيدة عن الفكر والعلوم وإنتاج المعرفة كما قد نتخيل، بل الحقيقي أن الفنون هي الأساس الفطري للتطور الفكري والعلمي والإصلاح الثقافي. وهذا ما كان من مسار طبيعي سلكته الحضارة المصرية القديمة منذ آلاف السنين، إذ كانت الفنون بكل أنواعها في التحامٍ تام مع العلوم والدين كذلك. وما يؤكده العلم الحديث في علم النفس الإدراكي وعلم نفس الإبداع أن الفنون مثل النحت والموسيقى والتمثيل لها أسس علمية رياضية وفيزيائية دقيقة جدًا، ولكن المهم في ذلك أنها أسس تتسم بالطابع الفطري والطابع العملي التطبيقي، وهذا هو المهم جدا. إذ تأتي أهمية الفنون الجميلة بكل أنماطها وأنواعها في إبعادنا عن الأمور الخلافية التي تصنع حالات من الانقسام والتناحر في الرأي والخلاف الذي لا ينتهي ونصبح معه كمن يدور حول نفسه بلا جدوى.

أبعاد الفنون المختلفة

لو تأملنا الأمر سنجد أن فنونًا مثل النحت لها أسسها الرياضية والفيزيائية والبصرية، بل هي فوق ذلك تمثل الالتحام التام للفنون بالقيم الإنسانية والوجدانية، أي وحدة المادة والروح معًا. ومن هنا يأتي تأثيرها ويصبح انتشارها وإصلاح علاقة الناس بها من الأمور التي تساعد على تمكين العقل المصري من أن يتنفس بشكل صحي، وأن يتعلم قواعد الاختلاف والتنوع وتباين الأذواق والاتجاهات، وتكسبه قدرًا من التسامح مع الآخر، والقدرة على التعاون مع المختلف بما يصنع القيمة ويمنح القدرة على التناغم والعمل الجماعي.

الموسيقى، على سبيل المثال، تعتبر نموذجاً بارزاً لهذا الاتحاد من خلال تناغم مصادر الصوت المتنوعة، بمختلف مستوياتها وأنواعها، سواء كانت نفخية أو وترية أو إلكترونية أو كهربائية. يبرز قدر التناغم والتوازن الذي يتحقق بين هذه المصادر المختلفة في التجانس الأوكسترالي، الذي يجمعها بشكل متناغم. وعندما نعمق أكثر في فلسفة الفنون، نجد أن الموسيقى تمثل وحدة طاقات الإنسان وعودة إلى القيم الأساسية التي تشكلت عليها الحضارات، مثل القدرة على التعاون والعمل الجماعي بتناغم.

الفنون التشكيلية أيضاً تحمل هذه الأبعاد، حيث تعتبر منحوتاتها خطاباً موجهاً للجماهير، تنقل فيه قيم العطاء والقدرة على الإنجاز والقدرة على خلق ما يتجاوز الزمن ويبقى عبر العصور. تظهر هذه الفنون قدرة الإنسان على البقاء والاستمرار، فقد كانت منحوتات المصريين أول مادة حافظة وصلت إلينا قبل اكتشاف سر التحنيط العظيم. النحت لم يكن مجرد تشكيل، بل كان تشكيل يتحدى الزمن وينقل المعاني والقيم للأجيال القادمة.

ومن هذه الأسس، نشأ النحت الحديث الذي يُمثل في السينما، والذي يتميز بالتطور والاختلاف عن فنون الماضي من حيث الحيوية والقدرة على إيصال رسالة قوية للجمهور. يحمل النحت الحديث رسالة توحيدية تعكس فكرة الخير والعطاء والسلام والإيجابية.

أصول الفنون المصرية

كل هذه الفنون ولدت في مصر، وينبغي علينا أن ندرك بوضوح أنها نشأت من قاعدة المجتمع المصري الواسعة. فقد بدأ الإنسان المصري القديم في تشكيل الطين لصناعة أدواته المنزلية وأدوات الحياة اليومية، ومن ثم اعتمدت هذه الفنون في المعابد والهياكل الثقافية والدينية عندما أدركت أن لها تأثيرًا عميقًا على حياة الناس وتقدم لهم الفائدة. تحولت هذه الفنون، مع مرور الزمن، من طقوس ارتبطت بالطبيعة والتواصل معها إلى طقوس دينية منظمة ومتطورة، بتبني الدوائر السلطوية والنخبوية من الكهنة والمعابد لهذه الفنون واستفادتها من العلوم، كالهندسة، والكيمياء، وعلوم الطبيعة، والطب، وعلوم الزراعة، والابتكارات المتقدمة.

فقدان الاتصال بالفنون وقيمها في العصر الحديث

مع التحول الحديث، بدأ الفكر والعقل المصري الحديث يفقد الاتصال بالفنون وقيمها، ويبدو أن هذا الانفصال كان ناتجًا عن تدخلات خارجية، ربما مرتبطة بدرجة ما بخطط الاستعمار الأولى، التي خلقت حالة من العداء بين الفكر والفنون. في الحقيقة، كانت الفنون هي التي ساهمت في الإنتاج والعطاء، فمثلاً، لولا الكوب الأول الذي تم تشكيله وتزيينه وزخرفته، ربما ظل الإنسان يشرب بيده أو فمه من قنوات المياه الجارية مثل بعض القردة والشمبانزي. ولولا الموسيقى وأول صوت مصطنع استطاع الإنسان المصري القديم توليده من الغاب، لما استطاع استئناس أنواعًا من الطيور، ولكان أطفاله يموتون جوعًا أو تقتلهم مشاعر الوحدة وتصوّر أن الطبيعة ليس فيها غير الحيوانات المفترسة. ولما أحب الإنسان الطبيعة وعشقها بما يدفعه للعمل والإنتاج والزراعة وغيرها من الاختراعات.

وما زالت هذه العلاقة بين العلوم والفنون قائمة حتى اليوم، حيث لا يوجد مجال من مجالات الحياة لا يرتبط بالفنون، سواء كان ذلك في التكنولوجيا أو الديزاين أو حتى في المجالات الفنية التقليدية مثل الموسيقى والنحت.

ينبغي على وزارة الثقافة أن تعمل على ترسيخ كل هذا بشكل عملي في مجال الإصلاح الثقافي، وأن تسعى إلى إعادة مصالحة العقل الشعبي مع الفنون، بدايةً من القاعدة العريضة للشعب في المحافظات والأقاليم، من خلال ابتكار أفكار عملية تستثمر فيها الفنون بطريقة عملية وتطبيقية. يجب وضع أطر عملية لتحقيق هذا الهدف، ويمكن تحقيق ذلك بسهولة إذا كان هناك فهم عميق لدور الفنون وقيمتها، ولما تحمله من فلسفة حياتية جوهرية، على عكس الصورة المغلوطة التي انتشرت في العقود الأخيرة.

كتب – د. محمد سليم شوشة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!