فن وثقافة

عبدالوهاب أحد الأباء المؤسسين للموسيقى المصرية

في ذكرى رحيله الـ 33، نسرد نقاطاً مضيئة عن أسطورة الفن المصري، الموسيقار محمد عبد الوهاب، أحد الأباء المؤسسين للموسيقى المصرية بفن خالد يأبى الاندثار.

رحلة مجد فني حافلة

مرّت رحلة محمد عبد الوهاب بمراحل كثيرة لمشوار فني طويل استمر قرابة 70 عاماً، منذ احتراف الفن في سن صغير حتى رحيله في مثل هذا اليوم 4 مايو عام 1991.

حقَّق محمد عبد الوهاب مجداً فنياً لم يقترب منه أحد. تاجٌ على جبين الغناء المصري، توجّه بخمسة وثلاثين عاماً من العطاء المتواصل، منذ عشرينات القرن العشرين حتى منتصف الخمسينات.

استمر بعدها في الغناء فترات متباعدة، لكِن تحوّل بالجزء الأكبر من فنه نحو التأليف الموسيقي ليقدم ألحاناً عظيمة ومتنوعة لأجيال متلاحقة، من أم كلثوم كوكب الشرق، إلى نجاة وليلى مراد وفايزة ووردة، قدّم عبد الوهاب لحناً لكلّ صوتٍ مميّز، تاركاً بصمةً لا تُمحى في تاريخ الموسيقى. ثم امتدَّ مشروعه الغنائي الخاص الذي رعاه في فن عبد الحليم حافظ، “ابنه الفني” إن جاز التعبير.

عبقرية موسيقية لمُطرب القرن العشرين

تقدمت مسيرة محمد عبد الوهاب عبر الدراسة الأكاديمية والشغف الموسيقي بجانب الموهبة الفذة، ليشكل هرماً موسيقياً شامخاً حوّل مسار الموسيقى المصرية نحو التحديث والتجديد.

بدأت مسيرة عبد الوهاب في عشرينات القرن الماضي، ولفت الأنظار بصوته العذب الشجي وعبقرية الأداء التي أصبحت سقف الأداء في الغناء.

لم يكن صوته عادياً، بل كان تحفةً فنيةً فريدةً، اتّسمت بإمكانياتٍ طربيةٍ استثنائية وإجادةٍ تامةٍ للمقامات الموسيقية.

فقد تمتع عبد الوهاب بمساحةِ صوتٍ قويةٍ تمتزج بجمالٍ فريدٍ في العُرب والتنغيم، ناهيك عن حسه الموسيقيّ المتفرد الذي ميزّه عن جميع مطربي عصره.
خلال فترة توهّج إنتاجه كمطربٍ، قدّم عبد الوهاب للموسيقى المصرية مئات الأغاني الكلاسيكية العظيمة التي ما زالت تُخلّد في ذاكرة الأجيال.

منها “أهون عليك” و”تراضيني وتغضبني” و”كليوباترا” و”النهر الخالد” و”حسدوني وباين في عيونهم” و”خايف أقول ال في قلبي” و”يا جارة الوادي” و”كلنا نحب القمر” و”جئت لا أعلم من أين” وكثيرٌ من قصائدِ أميرِ الشعراءِ أحمد شوقي الذي تبناهُ فنياً في بدايتهِ ورعاهُ حتى وصلَ لقمةِ الفنّ في مصر.

رائد السينما الغنائية

لم يقتصر إبداعُ محمد عبد الوهابِ على الغناءِ والتأليفِ الموسيقيّ فقط، بل امتدّ ليُصبحَ رائداً في مجالِ الفنّ السينمائيّ أيضاً.

كما كان سيد درويش رائداً للمسرحِ الغنائيّ، سارَ عبد الوهابُ على خطاهُ مُقدماً ألحاناً عظيمةً لمسرحياتٍ خالدةٍ في عشرينيات القرنِ الماضي وما تلاها.

ولكنّ عبقريتهُ لم تقف عند هذا الحدّ، بل تجاوزتْ حدودَ المسرحِ لتصلَ إلى شاشةِ السينما، حيثُ قادَ ثورةً فنيةً حقيقيةً بتقديمهِ لأفلامٍ غنائيةٍ مميزةٍ.

فتحَ عبد الوهابُ المجالَ أمامَ أهمّ المطربينَ من بعدهِ لاتّباعِ نفسِ التقليدِ وتقديمِ أفلامٍ غنائيةٍ أصبحتْ أحدَ أهمّ أركانِ صناعةِ السينما في مصرِ لسنواتٍ طويلةٍ. ونَذكر من أهمّ أفلامِ محمد عبد الوهابِ: “يوم سعيد” و“الوردة البيضاء” و”يحيا الحبّ” و”دموع الحبّ”.

موسيقار الأجيال وابنه الفني حليم

لم يكتفِ الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب بتقديم ألحانه الخالدة لكبار مطربي عصره فحسب، بل استمر في إبداعه حتى نهاية مشواره في مطلع التسعينيات، تاركاً إرثاً موسيقياً غنياً.

ولكن تبقى ألحانه مع كوكب الشرق أم كلثوم ذات بصمة خاصة، حيث تمثِل لقاء قطبي الموسيقى المصرية ورمزية إبداعهما المشترك. فمن “إنت عمري” و “هذه ليلتي” إلى “أمل حياتي” و “فكروني” و “على باب مصر”، رسم عبد الوهاب وأم كلثوم لوحة موسيقية خالدة تتردد أصداءها عبر الأجيال.

ولم يقف عطاء عبد الوهاب عند هذا الحد، بل امتد ليطال “ابنه الفني” عبد الحليم حافظ، الذي ربطتهما علاقة صداقة قوية. ففي صوت حليم، وجد عبد الوهاب ضالته ليترجم تجدد روحه كمطرب ومعاصرته الموسيقية كملحن.

وتُعدّ أغانيهم معاً، مثل “فاتت جنبنا” و “قولي حاجة” و “نبتدي منين الحكاية”، شواهد حية على إبداعهما المشترك، والتي لا تزال تُطرب الجماهير العربية حتى اليوم.

سر محمد عبد الوهاب

يكشف لنا الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب عن سر إنجازاته الفنية الاستثنائية، فيرجعها إلى “الالتزام بالفن”. يرى نفسه “راهباً في محراب الفن”، مكرساً حياته كلها للإبداع الموسيقي.

يصف عبد الوهاب شعوره تجاه عمله الفني بقوله: “عندما يكون في ذهني عمل ما، أظل أحلم به وأتحرك من خلاله. أعكف على موسيقاه ليل نهار، وأجلس بمفردي لساعات في مكان العمل حتى أُنهيه. أمارس عملي بهذا الشكل كل يوم، أبحث عن الموسيقى في كل مكان، ولا أتوقف عن المذاكرة لكل جديد.”
يؤكد عبد الوهاب على أن “الموهبة مهما كبرت ستتبدد بلا التزام فني، وستضرر كثيراً بلا معرفة ومواكبة للتطور”.

ختاماً، يُعدّ محمد عبد الوهاب في مصر بمثابة كبار مؤلفي الموسيقى الغربية مثل بيتهوفين وموتسارت وباخ. فهو يقف على قدم المساواة مع أكبر موسيقيين العالم، لأنه يمثل “موسوعة موسيقية مصرية” قادت الموسيقى في الشرق كله لأجيال، وخلّدت فنها للأبد.

إعداد : أميرة أبوشهبة

زر الذهاب إلى الأعلى