اقتصاد

مصر تعيد بناء أسطولها التجاري بهدف تحقيق مُقتضيات الأمن القومي المصري

عانى قطاع النقل البحري مُنذ تسعينيات القرن الماضي وحتى عام ٢٠١٤ من الإهمال الحكومي الشديد، حتى كادت أن تصل جميع مكوناته إلى مرحلة العجز التام عن القيام بوظائفها، فالموانئ المصرية عانت من سوء حالة وتقادم المُعدات المُستخدَمة في خدمات الشحن والتفريغ والإرشاد.

الأمر الذي أدى إلى ارتفاع فترات انتظار السفن التي ترسو بها، مما رفع تكلفة الشحن والتفريغ من خلالها، وصَعَّب على مالك السفينة وشاحن البضائع مسألة تقدير أوقات الشحن والتفريغ، وهو ما انتهي برفع سعر النولون للبضائع المُتجهة للموانئ المصرية، و قلل حجم ما تستقبله من بضائع على إثر ذلك.

بدأ هذا الوضع في التغيير منذ عام ٢٠١٦ مع خُطة الدولة الطموحة لبعث موانِئِها من جديد، حيث استهدفت توظيف الموانئ لخدمة مَلفّي الأمن القومي والاقتصاد المصريّين.

إذ قامت الدولة بتحديث جميع مُعدات الشحن والتفريغ، وعمّقت الأرصفة، وتوسّعت في بناء أرصفة مُتخصصة للبضائع الاستراتيجية، وأسندت إدارة محطة الشحن والتفريغ لشركات عالمية مثل ميرسك، وهتشسون، موانئ دُبي وأبو ظبي، ما بدأ يؤتي ثماره، ويُعيد الحركة مُجدداً للموانئ المصرية الرئيسية الخمسة عشر على البحرين الأحمر والمتوسط.

مع ذلك هذا التطوير لا يُمكن له أن يكتمل إلا بإعادة إحياء الأسطول التجاري المصري من جديد، ذلك الأسطول الذي من المُفترض أن يحمل البضائع المصرية للخارج، وأن ينقل السلع الاستراتيجية وخصوصاً القمح والذرة إلى البلاد، بحيث تنخفض التأثيرات الحادة لمشاكل الشحن والتفريغ العالمية، وتضع الأمن الغذائي المصري في يد مصر، وتُبعِده عن تأثير الشركات العالمية.

الهدف ألا يكون مصدر غذائنا من الخارج ومنقولاً على سُفن أجنبية إلا مؤقتاً،مع وجود أسطول تجاري مصري، فلا تتعقد أوضاعه بشدة و لا يُصبح عُرضة للتأثيرات المُضاعفة لمشاكل الشحن والتفريغ العالمية.

هذا الهدف لم يتحقق خصوصاً في فترة اضمحلال النقل البحري المصري مُنذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حيث بدأ الأسطول المصري في التقادم بشدة، لتخرج السفينة تلو الأخري من الخدمة، فنصل في عام ٢٠١٥ إلى أن أعمار ٩٠٪ من بين ٧٩ سفينة امتلكتها مصر تجاوز ١١ سنة، إضافة إلى انخفاض كفاءة سفن الأسطول المصري لنحو ٥٥٪ فقط من قدراتها الحقيقية،

ولبيان حجم التدهور والتراجع يكفى ذِكر حقيقة أن مصر كانت تمتلك فى ٢٠٠١ ما إجماليه ١١٦ سفينة. وما صلنا إلى ٧٩ سفينة بنسبة تراجع ٣١٪ إلا بسبب نقص الصيانة وعدم الإحلال. في حين أنَّه كان يجب أن تتجه الأعداد للزيادة مع زيادة أعداد المصريين وارتفاع مُعدلات التجارة الخارجية المصرية.

لذلك كان لا بد من التَّدخل جذرياً لإعادة إحياء هذا الأسطول، من حيث الكم والكيف، وهو ما بدأت فيه الإدارة المصرية بعد استكمال برنامج تطوير الموانئ.

أولاً: جرت إعادة تأهيل للشركات الحكومية الثلاث المُشغِّلة للسُفن التجارية وهي:

•الملاحة الوطنية: المُتخصصة في نقل البضائع سواء السائبة أو في الحاويات.
• والقاهرة للعبارات: المُتخصصة في نقل الرُكاب وخصوصًا بين مصر والمملكة العربية السعودية، لأغراض الحج.
• والجسر العربي: وهي شركة نقل ثلاثية الملكية بين مصر والعراق والأردن.

ثانياً: جرى تطوير ما تمتلكه هذه الشركات من سُفن:

•والبداية بشركة الملاحة الوطنية، التي أُعيد تأهيل ١١ سفينة كانت تمتلكها خصوصاً سفن الصب الجاف النظيف، التي تنقل الغلال سواء القمح أو الذرة، وسفينة واحدة ناقلة للحاويات. وفي ٢٠٢٢ أضُيفت أولي السُفن العملاقة الجديدة للأسطول وهي ناقلة صب جاف نظيف طولها ٢٢٩ متراً وعرضها ٣٢ وربع متراً والغاطس ١٤.٥ متراً وحمولتها ٨٢ ألف طن والتي سُميت “وادي الملوك”، الأمر الذي بات يُمكن الشركة من نقل بضاعة سنوياً حجمها ١٠ مليون طن صب جاف و٤٠ ألف حاوية، أو إجمالي واردات القمح بالكامل من الخارج.

•لم تكتف مصر بذلك إذ تسلَّمت الشركة الوطنية في يناير ٢٠٢٤، السفينة “وادي العريش” حمولة ٨٢ ألف، ثم أعلنت وزارة النقل في إبريل ٢٠٢٤ عن توقيع عقد بناء سفينتين جديدتين من أحدث سفن الصب الجاف النظيف بين شركة الملاحة الوطنية وترسانة هانتونج الصينية، الواحدة منها ٨٢ ألف طن، على أن يتم استلامهما في عام ٢٠٢٦، لترفع قدرة نقل الأسطول المصري بنحو ٢٠٪ بحلول وقت الاستلام.

•التطوير كذلك شمل القاهرة للعبارات والتي تمتلك في الوقت الحالي ٢ مركب فقط «القاهرة والرياض» تعملان في خط واحد من سفاجا والغردقة إلى ضبا في السعودية، بحمولة ٦٠ ألف راكب سنوياً، أضافت لها الوزارة عدد ٢ سفينة متعددة الأغراض تم توقيع عقد بنائهما بين الشركة وترسانة داي صن الكورية، مع مذكرة تفاهم لبناء ٤ سُفن أخري.

تأتي هذه السُفن الجديدة في إطار مُستهدِف لامتلاك مصر أسطول سُفن قادر على نقل الأسطول المصري إلى مكانة جديدة، بحيث يكون قادراً على نقل ٢٠ مليون طن بضائع سنوياً من البضائع الاستراتيجية، الغلال، والبترول. إضافة إلى نقل الركاب بين مصر وباقي دول العالم، وذلك بموازاة الزيادة المُستمرة في أعداد السُكان واحتياجاتهم من الخارج.

ولا ننسى أحد أهم أهداف خطة التحديث بدعم القطاع الخاص المصري وتسهيل نقل الشركات المصرية لمُنتجاتها إلى الخارج و خصوصاً للقارة الإفريقية.

ختاماً: تتجاوز جهود تحديث الأسطول المصري فكرة امتلاك القُدرة على نقل البضائع من وإلى الموانئ المصرية، إلى تحقيق مُقتضيات الأمن القومي المصري خصوصاً الأمن القومي الغذائي، وفتح أسواق جديدة أمام البضائع المصرية، وبالتالي تشجيع الاستثمار الأجنبي المُباشر للاقتصاد المصري، خصوصاً في المجال الصناعي، بما يجعل الجهود تتكامل للخروج بالاقتصاد المصري من وضع الأزمة إلى وضع الاستقرار التام، ومن ثم النمو والازدهار.

إعداد : د. محمد شادى

زر الذهاب إلى الأعلى