عملة غزة المحاصرة.. مصلحو الشيكل ينقذون اقتصادًا على وشك الانهيار

في ظهيرة مشمسة بمدينة غزة، ينحني إيهاب الحناوي على ورقة نقدية ممزقة في محطة عمل مؤقتة. بيديه الحريصتين، يختار قصاصة مطابقة من علبة نقود ممزقة، ويضع عليها الغراء، وينتظر حتى تجف في الحر الشديد. قبل الحرب، لم يتخيل أحد في غزة أن هناك حاجة إلى “مصلحي العملات”. أما الآن، فقد أصبح هذا العمل شريان حياة للكثيرين.
منذ أن أوقفت إسرائيل توريد أوراق الشيكل المطبوعة حديثًا مع بداية هجومها في أكتوبر 2023، اضطر سكان غزة إلى إعادة تدوير كل ورقة نقدية متبقية. يقول حناوي، البالغ من العمر 27 عامًا: “هذه الأوراق النقدية متداولة منذ ما يقرب من عامين دون استبدال. كثير من الناس عالقون مع نقود مهترئة لا يستطيعون استخدامها حتى لشراء الضروريات”.
مجتمع نقدي على حافة الهاوية
قبل الحرب، كانت أكثر من 80% من المعاملات في غزة تعتمد على النقد. الآن، مع تدمير أو إغلاق جميع فروع البنوك الـ 56، وثلاثة أجهزة صراف آلي فقط تعمل جزئيًا لأكثر من مليوني نسمة، أصبح النظام النقدي على وشك الانهيار التام. يتقاضى حناوي شيكلين (حوالي 40 بنسًا) لإصلاح كل ورقة نقدية، ويتعامل مع 500-600 ورقة نقدية يوميًا إذا كانت قابلة للإصلاح.
يوضح قائلًا: “أُلصق الأوراق النقدية الممزقة بشريط لاصق، وأُنظف البقع، وأستخدم لاصقًا خاصًا. إذا كانت الورقة النقدية مفقودة من أحد أركانها، أُصلحها بقطع من الورق المقوى. أما إذا كانت غير قابلة للإصلاح، فأضطر إلى رفض الناس”.
المقايضة والأسواق غير الرسمية تحل محل الاقتصاد الرسمي
أدى انهيار الصناعة والخدمات المصرفية إلى ترك معظم سكان غزة عاطلين عن العمل أو معدمين. وتحولت المعاملات بشكل متزايد إلى المقايضة، حيث يتبادل السكان البضائع عبر مجموعات فيسبوك لتجنب العمولات الباهظة التي يفرضها عدد قليل من الصيارفة المتبقين.
تقول سهيلة سلاك، التي كافحت لإنفاق آخر ورقة نقدية من فئة 20 شيكل لديها: “يعرض الناس علبة حليب أطفال مقابل كيس فاصوليا عبر الإنترنت، لمجرد البقاء على قيد الحياة”. يرفض البائعون الأوراق النقدية التالفة بشدة، وغالبًا ما يعني سحب النقود دفع عمولات ضخمة.
يستغل الصيارفة الأزمة مع اختفاء النقد
يشير الدكتور سمير أبو مدللة، العميد السابق لجامعة الأزهر، إلى أن العملة المادية أصبحت الآن “شبه معدومة في الأسواق المحلية”.
قد يتقاضى الصيارفة غير الرسميين عمولة تصل إلى 45% لتحويل الأرصدة الرقمية إلى نقود. حتى البنوك التي تعد باستبدال الأوراق النقدية البالية لم تفِ بوعودها بعد، بينما يرفض العديد من التجار حتى الأوراق النقدية التالفة قليلاً.
تعثرت محاولات سلطة النقد الفلسطينية لإدخال أنظمة الدفع الرقمية، إذ لا يزال التجار يُصرّون على استخدام النقد. وقد ولّد هذا الندرة حالة من اليأس، حيث اضطر السكان إلى السير أميالًا بحثًا عن من يقبل أموالهم المتعثرة، وغالبًا ما يُرفض طلبهم.
الأسعار ترتفع مع تفاقم التضخم والندرة
سيطر التضخم المفرط على أسواق غزة. ارتفع سعر كيلو الدقيق من 8 جنيهات إسترلينية إلى 325 جنيهًا إسترلينيًا، بزيادة قدرها 3650%. وارتفع سعر زيت الطهي من 1.30 جنيه إسترليني إلى 15 جنيهًا إسترلينيًا للتر، وأصبح سعر كيلو الطماطم الآن 13 جنيهًا إسترلينيًا. أما حليب الأطفال وحفاضات الأطفال، إن وُجدت أصلًا، فأسعارها تتجاوز بكثير قدرة معظم العائلات.
تقول سلاك بصوت متقطع: “لا أستطيع شراء حفاضات أو حليب لأحفادي. ينفطر قلبي لأنني لا أستطيع تلبية أبسط احتياجاتهم”.
اقرأ أيضا.. ارتفاع أسعار الفضة إلى أعلى مستوى لها في 14 عامًا
توزيع المساعدات يتحول إلى كارثة مع تفاقم أزمة الوقود
مع نفاد السيولة النقدية، يعتمد الكثيرون الآن كليًا على المساعدات، مما يؤدي إلى مشاهد خطيرة وفوضوية في نقاط التوزيع التي يحرسها الجيش الإسرائيلي ومتعاقدون أمريكيون من القطاع الخاص. وقد لقي أكثر من 800 شخص حتفهم بالقرب من هذه المواقع منذ أواخر مايو، وفقًا لوزارة الصحة في غزة، حيث يخاطر السكان بحياتهم من أجل الحصول على الضروريات.
وأفادت الأمم المتحدة أن 44% من بعثاتها الإغاثية في يونيو مُنعت من الدخول من قبل إسرائيل. ولا تدخل غزة سوى 32 شاحنة محملة بالمساعدات يوميًا، وهو ما يقل كثيرًا عن الاحتياجات.
رحبت الأمم المتحدة بالاستئناف الجزئي لإمدادات الوقود، لكنها وصفته بأنه “غير كافٍ على الإطلاق”. وقد أدى نقص الوقود إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 550%، مما جعل حتى التنقلات الأساسية باهظة الثمن.
التكلفة البشرية: خبراء يحذرون من تفاقم الأزمة
يحذر خبراء اقتصاديون، مثل الدكتور أبو مدللة، من أنه بدون تدخل عاجل، ستتفاقم الأزمة. ويقول: “لقد أثر نقص الوقود بشدة على الاقتصاد، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وجعل السلع الأساسية باهظة الثمن. حتى التنقلات الأساسية أصبحت الآن باهظة الثمن بشكل لا يُصدق”.
مع توقف محادثات السلام بين إسرائيل وحماس وتدمير البنية التحتية الأساسية، يعتمد سكان غزة على براعة حرفيي إصلاح العملات – ومهارة صائغي العملات الهشة – للنجاة من كارثة إنسانية.