خمسون عامًا من التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط.. كيف غيرت واشنطن وجه المنطقة؟

على مدى نصف قرن لم يتوقف التدخل الأمريكي، ولم تغب الولايات المتحدة عن مشهد الصراعات والتقلبات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، فمن دعم الجماعات المسلحة في أفغانستان إلى الغزو المباشر للعراق، ومن القواعد العسكرية في الخليج إلى التحالفات المتشابكة في سوريا واليمن، ظل الحضور الأمريكي عاملاً فاعلًا في صياغة خريطة القوة والتحالفات في المنطقة.

ورغم الشعارات التي رُفعت تحت رايات “الحرية” و”مكافحة الإرهاب”، إلا أن النتائج على الأرض كثيرًا ما كانت مغايرة، وطرحت تساؤلات جوهرية حول دوافع التدخل الأمريكي وآثاره الفعلية على شعوب المنطقة ومستقبلها.
1979 – بداية التدخل والنفوذ الأمريكي عبر أفغانستان
شكل عام 1979 نقطة تحول مفصلية في طبيعة الحضور الأمريكي بالمنطقة، وذلك عقب الغزو السوفيتي لأفغانستان، رأت واشنطن في ذلك فرصة استراتيجية لضرب النفوذ السوفيتي عبر دعم واسع النطاق للمجاهدين الأفغان، بالتنسيق مع المخابرات الباكستانية.

شمل الدعم تزويد الجماعات المسلحة بأسلحة متطورة وتمويل سخي، ساهم لاحقًا في تشكيل نواة تيارات جهادية عابرة للحدود، لم يكن التدخل مباشرًا بقوات أمريكية، لكنه فتح الباب أمام نمط جديد من التدخل غير المباشر، كانت له تداعيات بعيدة المدى على أمن المنطقة والعالم، وساهم في تغذية موجات التطرف في العقود اللاحقة.
1990 حرب الخليج الأولى وترسيخ الوجود العسكري الأمريكي
مع اجتياح العراق للكويت في أغسطس 1990، قادت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا واسعًا أعاد رسم موازين القوى في الخليج. ورغم أن العملية العسكرية نجحت في إخراج القوات العراقية من الكويت، إلا أن تداعياتها تجاوزت الحدود الجغرافية للمعركة، حيث بدأت مرحلة جديدة من التمركز الأمريكي في الخليج.

أنشأت واشنطن قواعد عسكرية في دول عدة، أبرزها قطر والبحرين والسعودية، لتأمين تدفق النفط وحماية ما تعتبره “مصالح استراتيجية”، هذا التمركز العسكري المستمر، الذي اتخذ طابعًا دائمًا منذ تلك الفترة، غيّر قواعد اللعبة الأمنية والسياسية في الخليج، وكرّس واشنطن كفاعل رئيسي في شؤون المنطقة الداخلية.
غزو العراق وسقوط النظام وتعزيز دور أمريكا
في مارس 2003، أطلقت الولايات المتحدة غزوها للعراق تحت ذريعة امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل. وسرعان ما سقطت بغداد، لكن الغزو فتح أبوابًا واسعة للفوضى والانقسام. أُقصي الجيش العراقي ومؤسسات الدولة، واندلعت موجات من العنف الطائفي، شكّلت أرضًا خصبة لصعود جماعات مسلحة، أبرزها تنظيم القاعدة ولاحقًا تنظيم داعش.

تحوّل العراق إلى ساحة نزاع مستمر، وفقدت واشنطن السيطرة على مسار الأحداث رغم بقاء قواتها فيه لسنوات. أدى ذلك إلى زعزعة استقرار العراق والمنطقة برمتها، وأعطى نموذجًا حيًا لفشل التدخلات العسكرية في تحقيق أهداف “الديمقراطية والاستقرار”.
التدخل الأمريكي في سوريا واليمن
مع اندلاع الأزمة السورية في 2011، انخرطت واشنطن في الملف السوري عبر دعم فصائل معارضة مختلفة في مواجهة النظام من جهة، وتنظيم داعش من جهة أخرى.

ومع تعدد أطراف الصراع وتضارب المصالح الإقليمية، تحوّل المشهد إلى صراع معقد ومتعدد الطبقات، لم تفلح فيه السياسة الأمريكية في حسم أي من مساراته.
وفي اليمن، دعمت الولايات المتحدة التحالف العربي بقيادة السعودية في حربه ضد جماعة الحوثيين، وقدّمت دعمًا استخباراتيًا ولوجستيًا، ما جعلها طرفًا في صراع خلف واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية عالميًا.
ورغم اختلاف السياق بين سوريا واليمن، إلا أن القاسم المشترك ظل في فشل التدخلات في إرساء أي مسار مستدام للحل.
النفط… العامل الخفي المحرك الاقتصادي لـ التدخل الأمريكي
لطالما كان النفط في صلب السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وإن لم يُعلن ذلك دائمًا بشكل مباشر. تمتلك دول المنطقة أكبر احتياطيات النفط عالميًا، ويُعد أمن الإمدادات النفطية من أولويات الأمن القومي الأمريكي.

شكّلت واشنطن تدخلاتها، سواء العسكرية أو السياسية، لضمان استقرار أسعار الطاقة، ومنع أي تهديد يُعيق تدفق النفط عبر المضائق الحيوية كهرمز وباب المندب.
وقد استخدمت في سبيل ذلك أدوات متعددة، من القواعد العسكرية إلى العقوبات الاقتصادية والتحالفات مع دول منتجة. وحتى في صراعات ظاهرها سياسي أو أمني، ظل النفط حاضرًا كعامل خفي يحرك السياسات من وراء الستار.
قواعد وتحالفات استراتيجية
عملت الولايات المتحدة على مدى العقود الخمسة الماضية على تعزيز شبكة من القواعد العسكرية المنتشرة في الخليج العربي، بالإضافة إلى بناء منظومة تحالفات أمنية وعسكرية مع حلفاء استراتيجيين في المنطقة.

وقد وفّر هذا الوجود العسكري المكثف قدرة عالية على التدخل السريع والردع، كما ساعد على ضبط موازين القوى، خاصة في مواجهة إيران أو الجماعات المسلحة.
غير أن هذا الانتشار أثار أيضًا توترات إقليمية، وزاد من حدة الاستقطاب السياسي، وأدى أحيانًا إلى تآكل استقلالية القرار السياسي لبعض الدول الحليفة.
نهاية أم بداية؟
بعد خمسة عقود من الحضور الأمريكي الكثيف في الشرق الأوسط، تظل المحصلة موضع جدل واسع. فقد تغيرت أنظمة، وتبدلت تحالفات، وتعمقت جراح شعوب عدة، دون أن يتحقق الاستقرار المنشود.

وتطرح المرحلة الراهنة، في ظل صعود قوى جديدة إقليميًا ودوليًا، تساؤلات جوهرية حول مستقبل الدور الأمريكي في المنطقة: هل يتجه نحو الانكماش الاستراتيجي؟ أم أن المنطقة ستظل رهينة لصراعات المصالح الدولية؟
ما يبدو جليًا أن تحقيق الأمن والاستقرار لن يتحقق عبر التدخلات العسكرية فحسب، بل يحتاج إلى رؤى سياسية واقتصادية شاملة تراعي خصوصيات شعوب المنطقة وتطلعاتها.
اقرأ أيضًا: صراع الخميني وخامنئي.. من ينتصر في معركة المرشد القادم لـ إيران؟