تحديات اللغة ومواجهة ثقافة التفاهة

د. محمد سليم شوشة – يكتب :

استقرّت رؤية البشرية الآن، أننا أمام عددٍ من التحديات المصيرية التي تهدد وجود البشر، وتشكل خطرًا مؤكّدًا على الحياة ومن أهمها عندنا تحديات اللغة ومواجهة ثقافة التفاهة.

وهذه التحديات ليست كثيرة، فهي ثلاث تحدِّيات أساسية:

التحدي الأول يتمثل في التغيرات المناخية المُتسبِّبة في انهيار النظام البيئي، والتحدي الثاني هو الحرب النووية الشاملة، أما الثالث فهو الذكاء الاصطناعي.

ربما يندهش بعضُنا من أن يكون الذكاء الاصطناعي من ضِمن هذه المخاطر، والتي تُهدّد البشرية تهديدًا وجوديًا؛ ينذر بفنائها، أو يُشيرُ إلى بعضِ الاحتمالات والسيناريوهات الكابوسية.

لكنَّ دهشتنا ستكون أعظم وأكبر حين نعرف أن الذكاء الاصطناعي يُصنَّف بأنه هو الأخطر على الإطلاق بين الثلاثة، وبفارق كبيرٍ جدًا؛ فهو أشبه بقنبلة ضخمة بِحجم العالم وصلت تمامًا إلى مرحلة الشحن والانطلاق ونقطة اللاعودة.

نعم هناك استقرار بين العلماء والمفكرين على أن الذكاء الاصطناعي الآن هو التحدي الأكبر للبشرية كلها. هو يتغلغل في حياتنا بشكل كامل، وحدود طاقاته وإمكاناته ليست معروفة أو في متناول إدراكنا بشكل واضح، وأما الأخطر فهو أن هناك تسارعًا بين البشر على تطويره بشكل سري يجعل الاحتمالات أكثر كابوسية.

ما سبق، هو حديثٌ على مستوى كون الذكاء الاصطناعي خطرًا عامًا للبشر جميعًا. لكِن ماذا عن خطر النموذج القادم – المُتوقَّع هيمنته وسيادته على التكنولوجيا في العالم – فيما يخص الثقافة واللغة العربية تحديدًا؟

هذا النموذج يعمل بشكلٍ مباشر على اللغة ودون ترميز رقمي، أي أنه يُعالج اللغة الطبيعية، وهذا الأمر بالنسبة لمن يعرف طبيعة الدراسات الخاصة باللغة العربية ووضعَها وحالَها، يدرك أن هناك عددًا من الإشكالات الخاصة باللغة العربية؛ تُنذِر بخروجها واستبعادها تمامًا من التكنولوجيا، وذلك في حال تسبَّبت طبيعتها، وطبيعة فهمنا لها، وطبيعة مادتها المُتوافرة في عجز هذا النموذج عن معالجتها أو الاشتغال بها.

الحقيقة هي أن ذلك الموضوع في غايةِ الخطورة وفق تقديراتي، ووفق طرحِ علماء الذكاء الاصطناعي، إلى جانب العاملين على دراسة اللغات لتَهيِئَتها لهذه المنظومة. وهي المعروفة بـ(Natural Language Process) و(Large Language Models).

هذه الأزمة لن يستوعبها بدقة إلا العالمون بشكلٍ كاملٍ بالدراسات البينية، التي تربط الذكاء الاصطناعي بالفكر اللغوي، أو بالدراسات اللغوية واللسانية. يُمكِن، ببساطة، أن نقول إن البرمجة والتكنولوجيا في هذه المنظومة الجديدة الخاصة بالذكاء الاصطناعي الفائق ترتبط بمُعالجة المعنى وفهمه في اللغات الطبيعية؛ أي يتم مُعالجة نصوص وكتب اللغة العربية كما هي. وإذا تمّ فهم المعنى أو تصوره على نحو دقيق، تكون معالجته للمهام المُسندَة له دقيقة، وذات نتائج تتصف بالدقة. أما إذا عجز عن الفهم أو إدراك المعنى، يصبح النموذج عاجزًا ويصاب بحالة من الهلوسة.

ومن موقعِ درايتي وخبرتي باللغة العربية ودراستها بوصفها التخصص الأساسي لي، أؤكِّد أن هناك إشكاليات كثيرة في منظومة اللغة العربية. وقد تأخرنا في معالجتها أو التصدي لها، ومزيد من التأخير في مواجهة الإشكاليات، يُنذِر بخطر كبير على مستقبلِ اللغة العربية مع هذه المنظومة الجديدة.

في رأيي، هذه قضية يجب أن تتحوَّل إلى مسألة أمن قومي لكل مُتحدِّث باللغة العربية. هذا إذا أرادوا الاستمرار في الحديث بها، أو أرادوا لها أن تبقى داخل دائرة التكنولوجيا لا خارجها على نحو ما حدث مع لغة العلوم الطبيعية من قبل. مع الأسفِ نسينا كيف خرجت اللغة العربية من لغة الطب والهندسة والصيدلة وغيرها من العلوم الطبيعية.

الطريفُ أن جزءًا من الوصفة التي يجب علينا اتباعها في حل هذه الإشكالية موجودة لدى عميد الأدب العربي، العبقري العظيم، الدكتور طه حسين.
وهو الذي قدّم مشروعًا من عشرات السنين، لتطوير دراسة اللغة العربية وتعليمها، مع فريق  من المُستنيرين يعمل معه في مجمع اللغة العربية وفي الجامعة قبل أن تسيطر ثقافة التفاهة.

وقد تحدَّث الأستاذ زكي المهندس عن طبيعة هذا المشروع في برنامج تلفزيوني قديم بثته قناة ماسبيرو زمان، ومن موقفه الأكاديمي عميدًا لكلية دار العلوم، وهو نفسه والد الفنان الكبير فؤاد المهندس.

مشروع طه حسين لتطوير دراسة اللغة العربية وتعليمها مشروع عظيم وشجاع في تصديه لبعض الإشكالات الموروثة في اللغة العربية. إشكالات تتعلق بحضورها وتعليمها بالنسبة لفئاتٍ كثيرة من المستخدمين أو المتحدثين بها. وكانت الدراسات اللسانية في العالم وقت هذا المشروع في بدايات نهضتها الحديثة التي تزامنت وتوازت في صعودها مع صعود التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

بشكل شخصي، أرى وجوب توحيد القدرات؛ لمواجهة التحديات الخاصّة بهذه، لأنها ربما تُوشِك أن تكون تهديدًا وجوديًا.

من منظور آخر، أزمة اللغة العربية كاشفة عن نوعية المثقفين العظماء من أمثال طه حسين. الذي كان يتعامل مع الثقافة بوصفها ضرورة في وجه التحديات الوجودية، في مقابل ما أصبح سائدًا الآن من ثقافة السبوبة والتفاهة.

نحن نرى عددًا كبيرًا من المثقفين يتجهون إلى قضايا ليس لأنها مهمة، أو لأنها ستؤثِّر بشكلٍ جوهري على حياتنا. ليس لأنها قد تُشكِّل تهديدًا وجوديًا لنا ولمستقبلنا، لكنّهم يتجهون صوبها، ليتخِذوا منها سبوبة للكلام، سبوبة لإبراز ذواتهم وتلميع أنفسهم المريضة.

نعم، ثقافة التفاهة، آفة أخرى انتشرت مع الأسف الشديد، حيث كثُر مُثقَفو السبوبة الباحثين عن مجالات لتلميع أنفسهم وإبراز ذواتهم، وذلك بصرف النظر عما ينتظرنا من المخاطر أو التهديدات.

أقول، إن بعض التهديدات الثقافية والفكرية، وبخاصّة ما يتصل باللغة وتحولات علاقاتها بالتكنولوجيا، ستنعكس بشكل مباشر على الاقتصاد، والسياسة، وعلى كثير من الأمور المجتمعية، بما فيها مستقبل التعليم، حتى أنها ستعكس تداعياتها السلبية على القدرات الصلبة والأمن القومي.

ومع الأسف مازلنا في غفلة، وإذا حدث وتنبّهنا إلى مشكلات الذكاء الاصطناعي مثلًا، فإن معالجاتنا ستكون بإعتباره مُجرَّد وسيلة تكنولوجية للتواصل، في حين أن الأمر هذه المرة مختلف تمامًا وبشكلٍ جوهري؛ الأمر مرتبط بفلسفة التشغيل والمعالجة ونظم البرمجة والتعامل أو الدخول باللغة الطبيعية؛ وليس في إطار فكرة الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة أو مجال استخدام أو وسيط. ذلك يحتاج منّا إلى دراسات بينية تكون على قمة الوعي والاطِّلاع في الجانبين، العلوم اللغوية الخاصة باللغة العربية، وعلوم الذكاء الاصطناعي وفلسفة بنائه وتشغيله.

زر الذهاب إلى الأعلى