تحديث محسوب في مكة والمدينة.. السعودية تراهن بقوة على ملكية الأجانب للعقارات

في تحول سياسي تاريخي، أقرت المملكة العربية السعودية تشريعا يسمح للأجانب بتملك العقارات داخل أراضيها، وهو ما يشكل خطوة غير مسبوقة في سياسة الدولة العقارية التي كانت لعقود حكرا على المواطنين.

ويأتي هذا القرار ضمن إطار رؤية 2030 التي وضعها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والتي تسعى إلى تنويع مصادر الدخل الوطني وتقليل الاعتماد على النفط عبر جذب الاستثمارات الأجنبية وتغييرالمشهد العقاري في المملكة.

ووفقا للصحيفة “المونيتور”أعلن عن القانون الجديد في 8 يوليو 2025، على أن يدخل حيز التنفيذ في يناير 2026.

ويتضمن القرار السماح للأجانب بتملك العقارات في عموم البلاد، بما في ذلك مناطق تطوير محددة داخل المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة.

مكة والمدينة.. تحديث محسوب ضمن قيود دينية

ويعد إدراج مكة والمدينة ضمن نطاق القانون الجديد من أكثر النقاط إثارة للجدل، خاصة وأن المدينتين تحتلان مكانة دينية مقدسة في العالم الإسلامي.

ويسمح القانون بالتملك في مشاريع تطوير عقاري كبرى مثل “مسار مكة”، لكن بشروط صارمة تحصر ذلك بالمسلمين فقط، ويعكس هذا النهج الدقيق سعي الحكومة للتحديث دون انتهاك الحدود الدينية.

وأشار الخبير في شؤون الشرق الأوسط، ثيودور كاراسيك، من مؤسسة “جيمستاون”، إلى حساسية هذا القرار، واصفا إياه بـ”الخطوة الكبرى”، قائلا: “كيفية تعامل المملكة مع حقوق الملكية والدين ستكون موضع اهتمام كبير خلال السنوات القادمة”.

ووصف هذه الخطوة بأنها “خطوة كبرى”، مشيرا إلى أن الحفاظ على الحرمة الدينية والتركيبة السكانية لهاتين المدينتين لا يزال بالغ الأهمية.

وبحسب تقرير صادر عن شركة “نايت فرانك” للاستشارات العقارية عام 2024، فإن 79% من المستثمرين المسلمين ذوي الثروات الكبيرة أبدوا اهتماما بشراء منازل في مكة أو المدينة، بميزانية متوسطها 4 ملايين دولار، مما يكشف عن سوق واعدة تسعى المملكة إلى تنظيمها واستغلالها بما يخدم مصالحها الاقتصادية والدينية معا.

الرياض وجدة.. الوجهات الجديدة للاستثمار العقاري

وبينما تحظى المدن المقدسة بالاهتمام العالمي، فإن المدن الكبرى مثل الرياض وجدة من المتوقع أن تكون المحور الرئيسي للاستثمارات العقارية الأجنبية.

فالرياض، التي بلغ عدد سكانها 7 ملايين في تعداد 2022، يتوقع أن يصل عدد سكانها إلى 9.6 ملايين بحلول عام 2030، منهم 5.5 ملايين وافد.

ويشهد السوق العقاري فيها طفرة ملحوظة، حيث تجاوزت قيمة المعاملات العقارية في الربع الأول من 2025 حاجز 16 مليار دولار.

ويرى المحلل الاستثماري توريك فرهادي، المقيم في جنيف، أن هذه التغيرات ستسهم في ضخ استثمارات أجنبية مباشرة في المدن الكبرى، مشيرا إلى أن “مشاريع جديدة ومثيرة قد ترى النور قريبا”.

وبحسب “نايت فرانك”، من المتوقع أن يرتفع عدد الوحدات السكنية في الرياض من 1.4 مليون في 2024 إلى 1.7 مليون بحلول 2030، مما يعكس الطلب القوي وتحول المدينة إلى مركز اقتصادي رئيسي ضمن استراتيجية التنويع الاقتصادي للمملكة.

تحول السعودية إلى مركز إقليمي لجذب الاستثمار

ولا يقف القانون عند حدود التملك فقط، بل يتكامل مع برنامج “الإقامة المميزة” المعروف باسم الإقامة، والذي يمنح مزايا متعددة للمستثمرين والأجانب الراغبين في الاستقرار بالمملكة.

ويعزز هذا التكامل جاذبية السعودية كمركز استثماري منافس للإمارات ودول الخليج الأخرى، لا سيما مع ارتفاع أسعار العقارات الفاخرة في دبي بنسبة 19% خلال عام 2024، ما يدفع المستثمرين للبحث عن وجهات جديدة.

وقد يشهد مشروع نيوم ومشروع البحر الأحمر، اللذان وصفا سابقا بالطموحين للغاية، تدفقا جديدا في الاستثمارات، رغم تقليص حجم مشروع نيوم ليستهدف 300 ألف نسمة بحلول 2030 بدلا من المليون المعلن سابقا.

وأشار كاراسيك إلى أبعاد أوسع للتملك العقاري، موضحا أن الملاك الأجانب سيتمكنون أيضا من الاستثمار في سوق الأسهم السعودية، وهو ما وصفه بـ”لحظة تطورية في كيفية استخدام السعودية للأراضي لتحقيق النمو والتقدم”.

التحديات الاجتماعية والاقتصادية.. معضلة الأسعار والإسكان

ورغم التفاؤل المحيط بالقانون الجديد، إلا أن هناك تحديات حقيقية لا يمكن تجاهلها، خاصة فيما يتعلق بتمويل الأجانب وارتفاع الأسعار الذي قد يؤثر سلبا على إمكانية التملك للمواطنين السعوديين.

وأوضح بدر السليماني، مستشار عقاري سعودي، أن 0.36% فقط من أراضي المملكة مُطورة، ما يعني وجود فرص ضخمة لتوسيع النطاق العمراني، خاصة مع الاستعداد لاستضافة فعاليات كبرى مثل إكسبو 2030 وكأس العالم 2034.

وفي السياق نفسه، تعمل الحكومة على مراجعة شروط الحصول على الإقامة المميزة، حيث يشترط حاليا استثمار ما لا يقل عن 1.1 مليون دولار في العقارات أو دفع مبلغ 800,000 ريال سعودي (ما يعادل 213,000 دولار) مرة واحدة، دون أن يعني ذلك بالضرورة الحصول على إقامة بمجرد التملك، مما يعكس تدرجا محسوبا في سياسة الانفتاح.

رد فعل السوق: انتعاش فوري وثقة متزايدة

وعقب إعلان القانون، سجلت أسهم شركات التطوير العقاري السعودية قفزات كبيرة، تجاوزت بعضها نسبة 6% في السوق المالية. وصرحت هيئة السوق المالية بأن هذا القانون يهدف إلى تحرير رأس المال، وتحسين جودة البناء، ومعالجة الفجوة بين العرض والطلب.

لكن مع كل هذه الإيجابيات، حددت الحكومة سقفا لمساهمة الأجانب في الشركات العقارية بنسبة 49%، مع استثناءات فقط للمستثمرين الاستراتيجيين الذين يقدمون قيمة طويلة الأمد سواء عبر رأس المال أو التكنولوجيا أو الخبرات المتخصصة.

واختتم توريك فرهادي تعليقه بالتأكيد على الأثر المجتمعي الشامل لهذا القانون، قائلا: “ستسهم هذه المبادرة في إثراء المجتمع ككل”، في إشارة إلى البعد الاجتماعي والاقتصادي الأوسع الذي تتطلع المملكة لتحقيقه.

نقلة استراتيجية نحو مستقبل ما بعد النفط

ولا يعد قرار المملكة بتحرير ملكية العقارات للأجانب مجرد تعديل قانوني، بل يمثل نقلة استراتيجية ضمن خطة شاملة لإعادة تعريف الاقتصاد السعودي.

اقرأ أيضا.. خطوات التسجيل وشروط القبول في برنامج كلية سليمان الحبيب 1447هـ.. فرصة للطالبات السعوديات

فبينما تسعى المملكة إلى جذب رؤوس الأموال وتنشيط سوق العقارات، تظل التحديات قائمة في كيفية تحقيق هذا التحول دون المساس بالقيم الدينية والاجتماعية.

وإذا نجح هذا القانون في تحقيق أهدافه، فإن السعودية لن تعيد فقط تشكيل سوقها العقاري، بل سترسخ مكانتها كمركز استثماري إقليمي ودولي في قلب الشرق الأوسط الجديد.

زر الذهاب إلى الأعلى