ترف بلا طمأنينة وولاء يشوبه الخوف.. كيف تعيش نخبة روسيا الحرب من منتجعات دبي؟
في قلب ناطحات السحاب المتلألئة بدبي، وتحديدًا في منتجع “ون آند أونلي ون زعبيل”، يجلس المنتج الموسيقي الروسي الشهير يوسف بريجوزين، بجانب زوجته نجمة البوب فاليريا، في إحدى شقتيهما الفاخرتين.
ويمثل بريجوزين، المعروف بعلاقاته الواسعة التي تتجاوز 11 ألف جهة اتصال، شريحة من نخبة موسكو الغارقة في التناقضات بين تأييد معلن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وشكوك مكتومة حول مستقبل البلد ومسار الحرب.
ووفقًا لـ “نيويورك تايمز”، باتت هذه الشخصيات، التي تخلَّت عن لندن وجنيف لصالح أفق دبي المعفى من العقوبات، تجسد مشهدا جديدا من الولاء المشروط، والثراء المحاصر، والتكيف كاستراتيجية للبقاء. ففي هذا الإطار، يتحول التناقض إلى وسيلة حياة، وتغدو دبي نافذة كاشفة عن الصراع الداخلي للنخبة الروسية.
دبي.. جنة للمنفيين الطوعيين من موسكو
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، أصبحت دبي الملاذ الجيوسياسي والاقتصادي الأبرز لأثرياء روسيا. لقد جعل الحياد الإماراتي والروابط التجارية المفتوحة من الإمارة وجهة مفضلة للهاربين من قبضة العقوبات الغربية. فبالنسبة لبريجوزين وفاليريا، فإن العيش في دبي لم يكن مجرد خيار، بل ضرورة.
ويقول بريجوزين: “لم أعد أشعر بالأمان وأنا أتنقل في موسكو بسيارتي الرولز رويس”، كاشفا أنه باعها واشترى سيارات أقل فخامة، لكنها أكثر انسجاما مع المرحلة، كنوع من التمويه والتأقلم، مشيرا إلى أن قيمة عقاراته في دبي ارتفعت بنسبة 30٪، ما يجعله يعتبر المدينة نموذجا للأمان والاستثمار.
وبينما واجه الزوجان عقوبات من كندا بدعوى “الترويج للفن الموالي للحرب”، يُصر بريجوزين على أن دعم زوجته كان “للبلاد” وليس للحرب نفسها، مضيفًا: “نحن لم نؤيد الحرب”.
بوتين الحنون؟ صورة مزدوجة للزعيم الروسي
ورغم قربه من الرئيس الروسي، حيث التقى به في مناسبات شخصية واحتفالات خاصة، ونال منه أوسمة رسمية؛ فإن صورة بوتين في سردية بريجوزين تحمل طابعا إنسانيا مُدهشا: “رجل عطوف، لا يضغط على أحد للشرب، ويخلع ربطة عنقه ليجعل الآخرين يشعرون بالارتياح”.
لكن، تسريب صوتي نُشر عام 2023 هز هذه العلاقة. في المكالمة، التي يُعتقد أنها جرت بين بريجوزين ورجل الأعمال فرهاد أحمدوف، يُسمع صوت يائس. يقول الصوت: “لا مستقبل لنا… لقد خدعنا تماما”. وقد فسرت تاتيانا ستانوفايا، خبيرة مركز كارنيجي، ذلك التسجيل على أنه “صرخة من أعماق النخبة”.
ورد بريجوزين على ذلك بالقول إن: “المكالمة مفبركة، أو على الأقل مجتزأة… ربما تكون ضحية لخلط مع يڤغيني بريجوزين الآخر (زعيم فاجنر الراحل)”، لكنه يُقر بأن ما قيل فيها يُشبه تماما ما يتداول سرا في أوساط النخبة.
وجع شخصي: الحرب تصل إلى بيت بريجوزين
وخلف المواقف السياسية والعقوبات الدولية، تأتي القصة الشخصية التي أضفت طابعا إنسانيا عميقا على حياة بريجوزين: فقدان صهره، يڤغيني تكاتشينكو، الذي تطوّع في الحرب ومات في ظروف غامضة. “أريد أن يفخر بي ابني”، كانت آخر رسالة أرسلها لعائلته قبل أن يُفقد في مهمة عسكرية نهاية 2023.
يقول بريجوزين: “هذه الحرب كشفت أن لا أحد كان مستعدا حقا”، مؤكدا أن بوتين لم يكن يخطط لحرب شاملة، بل دُفع إليها بفعل الضغوط الغربية، وفقا لروايته. ورغم حزنه، لا يتبنى موقفا مناهضا علنيا، بل يتماهى مع فلسفة “الانضباط الواقعي” الذي يتبعه كثير من المقربين من السلطة: “أنا فقط أعيش وفق القواعد المفروضة علي”.
التكيف كخيار أخير: بين النفي والنجاة
وتجسد رحلة بريجوزين، من مُروّج حفلات إلى مُنتج مقرب من الكرملين، ثم إلى مغترب في دبي، واقعا مكررا في أوساط النخبة الروسية. فمع تراجع الحريات وتزايد العزلة الدولية، بات “التكيّف” عنوان المرحلة. وبصفته رجلا يهوديا من أصول أوكرانية وقوقازية، يرى أن البقاء يتطلب مهارة التحول، لا المواجهة.
اقرأ أيضًا.. فنادق فاخرة ومارينا عالمية.. الإمارات تطلق المرحلة الأولى من مشروع رأس الحكمة
حتى في ظل الأحاديث عن الخيانة والتخلي، يواصل بريجوزين إدارة أعمال زوجته، والتنقل بين العوالم المتوازية التي يتحدث عنها كثيرا: “هناك عالم يعيش الحرب بكل تفاصيلها، وآخر يتجاهلها وكأنها لا تعنيه”.
دبي، إذا، ليست فقط ملاذا من العقوبات، بل مسرحا لدراما أخلاقية تعيشها النخبة الروسية، حيث لا صوت يعلو على صوت البقاء.