حرب غزة تعيق جهود أوروبا في تحقيق التماسك الاجتماعي.. التفاصيل

في حين تكافح أوروبا مع تداعيات الصراع المستمر في غزة، فإن مؤسساتها، التي كانت تعتبر ذات يوم ركائز للسلام والوحدة والتماسك الاجتماعي، أصبحت الآن تحت ضغط متزايد، وفقًا لتحليل نشرته نيويورك تايمز.
فمن ملاعب كرة القدم إلى الفعاليات الثقافية، أشعلت معاداة السامية المتزايدة والسياسات المعادية للهجرة انقسامات تهدد بتفكيك سنوات من التقدم نحو التكامل والمدنية.

معاداة السامية ومعاداة المهاجرين، والتوترات الاجتماعية

لقد سلطت حرب غزة الضوء بشكل حاد على تعقيدات النسيج المتعدد الثقافات في أوروبا، وخاصة في البلدان ذات السكان المسلمين البارزين.

الآن يتم اختبار الجهود الطويلة الأمد التي تبذلها الحكومات الأوروبية لتعزيز التماسك الاجتماعي ــ من خلال الاتحاد الأوروبي، والرياضة، والمبادرات الثقافية ــ في ظل الانقسامات المتزايدة، التي حفزتها معاداة السامية المتزايدة وردود الفعل العنيفة ضد الهجرة.

في مدن مثل برلين وأمستردام ومالمو، أدى العنف في غزة إلى تأجيج مناخ الغضب والاستقطاب، وخاصة بين الشباب المسلمين الذين يشعرون بالغضب الشديد إزاء القصف الإسرائيلي والخسائر الكبيرة في الأرواح في غزة. ومع استمرار الحرب، امتدت هذه التوترات إلى الأماكن العامة والأحداث التي كانت تعتبر ذات يوم موحِّدة.

ومن الأمثلة البارزة على ذلك العنف الأخير في أمستردام الذي أحاط بمباراة كرة قدم بين فريق إسرائيلي، مكابي تل أبيب، وفريق أياكس الهولندي. وتحقق السلطات في ما وصفته بالهجمات المعادية للسامية على المشجعين الإسرائيليين، إلى جانب تقارير عن أعمال تحريضية من كلا الجانبين.

إن الاشتباك في المباراة في أمستردام ليس حادثًا معزولًا؛ ففي جميع أنحاء أوروبا، اندلعت مظاهرات واحتجاجات مماثلة، وحتى أعمال عنف ردًا على الحرب، مما كشف عن انقسامات عميقة في المجتمعات الأوروبية.

اقرأ أيضًا: الموزوفوبيا.. رسائل مسربة تكشف عن رهاب غير عادي لدى وزيرة سويدية

مسابقة الأغنية الأوروبية: من الوحدة إلى الانقسام

لقد شاب مسابقة الأغنية الأوروبية، وهي احتفالية خفيفة الظل بالثقافة الأوروبية والوحدة، التوترات المرتبطة بالصراع في غزة.

في مالمو بالسويد، وهي مدينة يسكنها عدد كبير من المسلمين، عطلت الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين الحدث، واستهدفت بشكل خاص إيدن جولان، وهي متسابقة إسرائيلية. وقد قوبل أداء جولان باستهجان وسخرية من بعض أفراد الجمهور، بينما صوت آخرون لصالحها بأعداد كبيرة، مما دفعها إلى المركز الخامس.

كان منظمو مسابقة الأغنية الأوروبية قد غيروا بالفعل كلمات أغاني جولان لتجنب الإشارات السياسية الصريحة، إلا أن الاحتجاج سلط الضوء على كيف أصبح الحدث الثقافي، الذي كان من المفترض أن يعزز الوحدة من خلال الموسيقى والفن، ساحة معركة للآراء السياسية المتعلقة بصراع غزة.

يمثل هذا الحادث انعكاسًا لكيفية إصابة الحرب للمساحات التي كانت تعتبر محايدة ذات يوم، وتحويلها إلى منصات مستقطبة للأيديولوجيات المتنافسة.

التوترات في ألمانيا: الاحتجاجات والرقابة والضغط على Staatsräson

في ألمانيا، وهي دولة يعتبر فيها دعم إسرائيل حجر الزاوية في السياسة الوطنية (Staatsräson)، وضعت حرب غزة السلطات في موقف صعب. لقد اضطرت الشرطة الألمانية إلى إغلاق المسيرات المؤيدة للفلسطينيين، وفي بعض الحالات، حجبت المنظمات الفنية الجوائز عن الفنانين الذين انتقدت أعمالهم إسرائيل.

على سبيل المثال، واجه معرض فرانكفورت للكتاب انتقادات بسبب إسكات الأصوات الفلسطينية بعد إلغاء حفل توزيع جوائز رواية Minor Detail للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، بسبب الصراع المستمر.

أدى هذا إلى شعور متزايد بالإحباط بين المؤيدين الفلسطينيين، الذين يشعرون بأن أصواتهم مهمشة. يلاحظ ستيفان كورنيليوس، كبير المحررين في صحيفة زود دويتشه تسايتونج الألمانية، أن الحرب تجبر الناس على اتخاذ موقف، غالبًا بطرق تتناقض مع موقف ألمانيا تجاه إسرائيل.

يزعم كورنيليوس أن هذا الوضع أدى إلى تكثيف الدعم للفلسطينيين، وخاصة في مجال الفنون، حيث يشعر الشخصيات بالإلزام بالتحدث ضد تصرفات إسرائيل، وأحيانًا إلى حد تنفير الجمهور الأوسع.

مخاوف كرة القدم: نموذج مصغر للانقسام المتزايد في أوروبا

لم يكن عالم كرة القدم محصنًا من تأثير الصراع في غزة. وشهدت مباراة بين فريقين إسرائيلي وفرنسي في باريس، ضمن إطار بطولة الدوري الأوروبي، تواجداً مكثفاً للشرطة، حيث تم نشر 4000 ضابط تحسباً لأي أعمال عنف محتملة.

على غرار أمستردام، اندلعت احتجاجات ضد مشاركة إسرائيل، مما يؤكد الانقسام المتعمق بين المجتمعات المختلفة في أوروبا. وفي ألمانيا، ظهر تقرير يفيد بأن فريق كرة قدم يهودي في برلين، مكابي برلين، تعرض لهجوم من قبل حشد يحمل العصي والسكاكين، وهم يهتفون “فلسطين حرة”. وتحقق السلطات في الحادثة لاحتمال التحريض وخرق السلام.

إن كرة القدم، التي كانت تقليديا رياضة تجمع الناس عبر الحدود الوطنية، تعمل الآن كنموذج مصغر للخلافات المتزايدة الاتساع في أوروبا. ومع استخدام المتطرفين على جانبي المناقشة لمباريات كرة القدم كمنصات لآرائهم السياسية، فإن السلطات الأوروبية تكافح من أجل كيفية الحفاظ على النظام العام مع احترام حقوق جميع المجموعات المعنية.

صعود القومية: مناخ الخوف بين المسلمين

إن حرب غزة لا تؤثر على المجتمعات اليهودية في أوروبا فحسب، بل إنها تؤدي أيضا إلى تفاقم التحديات التي يواجهها المسلمون الذين يعيشون في القارة.

إن صعود الحركات القومية اليمينية المتطرفة ــ مثل حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) الألماني، الذي يضم عناصر من النازيين الجدد ــ أدى إلى تفاقم المخاوف التي يشعر بها العديد من المسلمين، وخاصة في أعقاب العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة.

يسلط أيمن مزيك، رئيس المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا، الضوء على “مناخ الخوف” الذي ساد بين المسلمين في البلاد. ومع تزايد الهجمات على المساجد والمسلمين، يشعر العديد من أفراد المجتمع بأنهم مستهدفون ومخيفون.

بحسب وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية، يواجه ما يقرب من نصف المسلمين في أوروبا العنصرية والتمييز، وهي زيادة كبيرة منذ عام 2016. ويتأثر الشباب المسلمون، وخاصة أولئك الذين ولدوا في أوروبا، بشكل غير متناسب، حيث يواجهون التمييز العنصري والاستبعاد من المجتمع وإنفاذ القانون.

هذا المناخ من الخوف حاد بشكل خاص بالنسبة للمهاجرين المسلمين من الجيل الثاني والثالث، الذين يجدون أنفسهم غالبًا محاصرين بين عالمين. وكما لاحظت هيلين كونواي موريه، نائبة رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الفرنسي، فإن العديد من الشباب المسلمين يشعرون بالانفصال عن تراثهم ويكافحون من أجل إيجاد مكانهم في المجتمع الأوروبي.

في هذا السياق، أصبح دعم الفلسطينيين وسيلة للعديد من الشباب المسلمين لتكوين شعور بالانتماء إلى المجتمع والهوية في مواجهة التمييز.

كوكتيل سام من العنصرية ومعاداة السامية والغضب السياسي

في أمستردام، حيث وصلت أعمال العنف المحيطة بمباراة أياكس ومكابي تل أبيب إلى نقطة الغليان، وصفت عمدة المدينة الوضع بأنه “كوكتيل سام” من معاداة السامية والعنف والغضب السياسي إزاء الصراع في غزة.

أدانت فيمكي هالسيما، عمدة أمستردام، الهجمات على الأفراد اليهود وأكدت على أنه لا ينبغي الرد على معاداة السامية بأشكال أخرى من العنصرية. والوضع في هولندا يرمز إلى أزمة أوروبية أوسع نطاقاً حيث تتأثر السلامة العامة والتماسك الاجتماعي والخطاب السياسي بشكل متزايد بالتداعيات الناجمة عن حرب غزة.

نضال أوروبا من أجل الوحدة في أعقاب حرب غزة

كشفت حرب غزة عن الشقوق العميقة في المجتمع الأوروبي، وكشفت عن قارة ممزقة بين دعم إسرائيل والتضامن مع الفلسطينيين. ومع تصاعد معاداة السامية، وزيادة المشاعر المعادية للمهاجرين، وصعود الحركات السياسية اليمينية المتطرفة، فإن جهود أوروبا في مجال التماسك الاجتماعي تتعرض لضغوط هائلة.

من الاحتجاجات في الأحداث الثقافية مثل مسابقة الأغنية الأوروبية إلى الاشتباكات العنيفة في مباريات كرة القدم، دفعت الحرب إسفينًا بين المجتمعات التي كانت تُرى ذات يوم على أنها رمز للتعددية والوحدة في أوروبا.

مع استمرار الصراع في الاشتعال، تواجه الحكومات الأوروبية تحديًا صعبًا: الموازنة بين حماية حقوق الأقليات والحفاظ على النظام العام في بيئة شديدة الاستقطاب.

إن ارتفاع التمييز والتصنيف العنصري والعنف السياسي بمثابة تذكير بأن المؤسسات والمُثُل التي حددت أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أصبحت الآن عند مفترق طرق. إن كيفية استجابة أوروبا لهذه التوترات في الأشهر والسنوات القادمة ستشكل مستقبل نسيجها الاجتماعي.

Back to top button