من التصدير إلى الاستيراد بـ20 مليار دولار.. ماذا يحدث في ملف الطاقة المصري ؟

كشفت بيانات صادرة عن البنك المركزي المصري عن تسجيل أكبر عجز في صافي ميزان تجارة البترول في تاريخ البلاد، حيث بلغ العجز نحو 20 مليار دولار خلال العام المالي 2025/2026، وهو رقم قياسي يُمثّل تحوّلًا عميقًا في مركز مصر البترولي الذي شهد تراجعًا حادًا على مدى السنوات الثلاث الأخيرة.

اقرأ أيضا.. إعمار الإماراتية تكشف عن تصميمات أول مشروعاتها على البحر الأحمر في خليج سوما.. فيديو

عجز تاريخي بعد سنوات من الفائض

تُظهر بيانات البنك المركزي المصري تحولًا جذريًا في ميزان تجارة البترول خلال العقدين الأخيرين، حيث بدأت مصر تسجّل فوائض قوية منذ منتصف الألفينات، قبل أن تتجه تدريجيًا نحو تسجيل عجز متصاعد بلغ ذروته التاريخية في 2025/2026.

ففي الفترة بين 2004/2005 و2010/2011، سجلت مصر فوائض متتالية في الميزان البترولي تراوحت بين:
1.32 مليار دولار في 2004/2005
وصولًا إلى 5.98 مليار دولار في 2006/2007
وبلغت ذروتها عند 5.10 مليار دولار في 2009/2010

ومع بداية 2011/2012، بدأت الفوائض تتآكل تدريجيًا، ليسجّل الميزان:
عجزًا طفيفًا بقيمة 0.55 مليار دولار في 2011/2012
تلاه عجز بـ0.89 مليار دولار في 2012/2013
ثم فائض محدود بقيمة 0.90 مليار دولار في 2013/2014

الفترة من 2014/2015 حتى 2017/2018 شهدت عجزًا واضحًا ومستمرًا:

2014/2015: -3.47 مليار دولار
2015/2016: -3.62 مليار دولار
2016/2017: -5.43 مليار دولار (أكبر عجز في ذلك الوقت)
2017/2018: -3.72 مليار دولار

وفي عام 2018/2019 بدأ التحسّن مع تسجيل فائض طفيف قدره 0.01 مليار دولار، تلته:
2020/2021: فائض محدود قدره 0.41 مليار دولار
2021/2022: ذروة جديدة بفائض بلغ 4.43 مليار دولار، مدفوعًا بارتفاع صادرات الغاز الطبيعي المسال

لكن من 2022/2023 بدأت مرحلة التراجع الحاد:
2022/2023: عجز طفيف -0.01 مليار دولار، بسبب تراجع إمدادات الغاز من إسرائيل
2023/2024: فائض ضعيف بلغ 0.41 مليار دولار
2024/2025: عجز حاد بـ14.45 مليار دولار
2025/2026: عجز قياسي متوقع بـ20 مليار دولار، وهو أكبر عجز بترولي في تاريخ مصر

بيانات البنك المركزي المصري عن الميزان التجاري البترولي

ويُعبر هذا التدهور عن تحول مصر من دولة مصدرة للطاقة إلى مستورد صافٍ للغاز والبترول، في ظل انخفاض الإنتاج المحلي وارتفاع تكلفة الواردات، مما أدى إلى ضغوط مباشرة على الاحتياطي النقدي وسعر صرف الجنيه، وغياب الفوائض التي كانت تدعم الحساب الجاري لسنوات.

قفزة ضخمة في واردات الطاقة

يأتي هذا العجز نتيجة ارتفاع واردات الغاز الطبيعي والبترول الخام والمنتجات البترولية، التي سجلت وحدها:

14.5 مليار دولار واردات نفطية خلال 9 أشهر فقط (يوليو 2024 – مارس 2025)

مقارنة بـ 4.2 مليار دولار فقط من الصادرات، وفق ما أعلنته “رويترز” في تقرير عن الحساب الجاري المصري.

وأدى هذا الخلل التجاري إلى ضغط مباشر على احتياطي النقد الأجنبي، وتفاقم الحاجة لتوفير سيولة دولارية فورية لاستيراد الطاقة.

20 مليار دولار مخصصة لتأمين احتياجات الطاقة

في ظل هذا التحدي، خصصت الحكومة المصرية نحو 20 مليار دولار خلال العام المالي 2025/2026 لتلبية الطلب المحلي من الوقود، وتشغيل محطات الكهرباء، وضمان استقرار السوق المحلي.

وتشمل هذه المخصصات:

-استيراد ما بين 40 إلى 60 شحنة غاز طبيعي مسال (LNG) من السوق الفوري

-التعاقد مع موردين من قطر والجزائر وأرامكو السعودية وعدد من التجار العالميين

-تغطية تكاليف شحنات إضافية من السولار والبنزين والمازوت

-توفير احتياجات الصناعة ومحطات الكهرباء التي واجهت انقطاعات متكررة في النصف الأول من 2025

أزمة الكهرباء تعيد ترتيب أولويات الطاقة

تفجّرت الأزمة علنًا مع تصاعد أزمة انقطاع الكهرباء في صيف 2025، نتيجة تراجع إنتاج الحقول المصرية من الغاز الطبيعي بأكثر من 10%، وغياب الإمدادات الإسرائيلية بعد الحرب، ما أدى إلى:
-توقف محطات تسييل الغاز عن التصدير
-سحب كميات الغاز المنتجة لتلبية الطلب المحلي فقط
-الاعتماد على مصادر وقود بديلة مثل المازوت والفحم لتشغيل بعض المحطات

من مركز إقليمي للطاقة.. إلى مستورد صافٍ

منذ عام 2018، روّجت الحكومة المصرية لكونها مركزًا إقليميًا لتصدير الغاز والطاقة، خصوصًا بعد تشغيل محطات إدكو ودمياط للتسييل، وإعادة تصدير الغاز الإسرائيلي.

ومع تصاعد التحديات الإقليمية وتراجع الاستثمارات الأجنبية في أنشطة البحث والاستكشاف، بدأت مصر تفقد تدريجيًا قدرتها التصديرية من الغاز الطبيعي، وهو ما انعكس بوضوح في انخفاض كميات الإمداد الموجهة للتسييل، وتراجع العائدات السيادية من بيع الغاز إلى الأسواق الخارجية.

ووصلت هذه الأزمة إلى ذروتها مع توقف الصادرات رسميًا من محطتي إدكو ودمياط منذ منتصف عام 2023، لتتحول مصر فعليًا إلى مستهلك صافٍ للإنتاج المحلي، وسط تزايد الضغوط على شبكة الكهرباء وسوق الطاقة المحلية.

خطط حكومية لمواجهة الأزمة

في مواجهة التحول الحاد في ميزان الطاقة، تستعد الحكومة المصرية للإعلان عن استراتيجية وطنية جديدة للطاقة تستهدف احتواء العجز وتقليل الاعتماد على السوق الفوري للوقود. وتشمل الخطة المرتقبة أربعة محاور رئيسية:

أولًا، التوسع السريع في مشروعات الطاقة المتجددة، من خلال تعزيز الاستثمارات في محطات الرياح والطاقة الشمسية، وعلى رأسها مشروعا “رأس غارب” و”خليج السويس” بقدرة 500 ميجاوات، مع التزام رسمي بالوصول إلى توليد 42% من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول عام 2030.

ثانيًا، تطوير الحقول المحلية في البحر المتوسط وخليج السويس، عبر مراجعة عقود الامتياز الحالية وتحفيز الشركات الأجنبية الكبرى على العودة لضخ استثمارات جديدة في أنشطة البحث والاستكشاف.

ثالثًا، ترشيد استهلاك الكهرباء داخليًا، عبر تمديد العمل ببرامج تخفيف الأحمال خلال فترات الذروة، مع الاتجاه لإعادة هيكلة الدعم البترولي تدريجيًا بما يقلل الهدر ويعيد توجيه الموارد.

أما المحور الرابع، فيتمثل في تعزيز عقود استيراد الغاز والوقود عبر اتفاقيات طويلة الأجل، بدلًا من الاعتماد على السوق الفوري المرتفع التكلفة، بما يضمن استقرار الإمدادات وتقليل الضغوط على احتياطي النقد الأجنبي

تأثير اقتصادي أوسع

ورغم نجاح الحكومة في الوفاء بوعدها بعدم تخفيف الأحمال خلال الصيف، وتمكّنها من تلبية احتياجات المصانع من الغاز الطبيعي، ما أسهم في أن يمر موسم الصيف دون انقطاعات في التيار الكهربائي، إلا أن هذا النجاح جاء مصحوبًا بتكلفة باهظة.

فقد بات قطاع الطاقة وحده يستنزف جزءًا متزايدًا من موارد النقد الأجنبي، وهو ما يُشكّل ضغطًا مباشرًا على خطط استقرار سعر صرف الجنيه، ويُقوّض قدرة البنك المركزي على تعزيز الاحتياطي النقدي، فضلًا عن تأثيره السلبي على مصداقية الدولة في ملف الاكتفاء الذاتي من الطاقة، الذي كان أحد أبرز محاور الخطاب الاقتصادي في السنوات الأخيرة.

زر الذهاب إلى الأعلى