رأس الناتو وقلب الشرق.. هل تنجح تركيا في مواصلة سياسة السير على أطراف الأصابع؟

تجد تركيا نفسها اليوم في موقع جيوسياسي فريد ومعقَّد، حيث تسعى جاهدة للحفاظ على توازن دقيق بين القوى العالمية والإقليمية المتنافسة .

إنها دولة ذات تاريخ عريق من التحولات، من إمبراطورية عثمانية مترامية الأطراف إلى جمهورية علمانية حديثة، ثم إلى لاعب إقليمي مضطرب يسعى لتعزيز نفوذه. هذه الديناميكية المعقدة تجعل من السياسة الخارجية التركية محط أنظار العالم، وتثير تساؤلات حول مستقبلها وموقعها في النظام الدولي المتغير.

السير على خيط رفيع

تُعد تركيا، رغم عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مثالاً بارزًا على الدبلوماسية المتعددة الأوجه. ففي الوقت الذي تُعتبر فيه جزءًا لا يتجزأ من التحالف الغربي، نجدها تبرم صفقات أسلحة كبرى مع روسيا، مثل منظومة الدفاع الجوي S-400، مما يثير حفيظة حلفائها التقليديين.

وفي الوقت نفسه، تدعم أنقرة أوكرانيا في صراعها مع روسيا، بينما تحافظ على قنوات اتصال مفتوحة مع إيران، وتتشارك معها في بعض الملفات الإقليمية.

هذا التموضع المعقد يجعل تركيا تلعب أخطر الأدوار على الحبل المشدود، محاولة تحقيق مصالحها الوطنية دون الانزلاق إلى أي طرف بشكل كامل.

 تاريخ من التحولات

شهدت تركيا تحولات جذرية على مر العصور. فمن إمبراطورية عثمانية حكمت أجزاء واسعة من العالم لقرون، إلى دولة علمانية حديثة تأسست على يد مصطفى كمال أتاتورك، ثم إلى لاعب إقليمي يسعى لاستعادة نفوذه التاريخي.

هذه التحولات المستمرة تعكس قدرة تركيا على التكيف مع المتغيرات، لكنها أيضًا تبرز التحديات التي تواجهها في تحديد هويتها وموقعها في العالم المعاصر.

الناتو وتركيا تحالف مشروط وتحديات مستمرة

منذ انضمامها إلى الناتو في عام 1952، شكلت تركيا نقطة ارتكاز عسكرية استراتيجية للحلف، نظرًا لموقعها الجغرافي الذي يربط بين أوروبا وآسيا.

ومع ذلك، شهدت العلاقة بين تركيا والناتو توترات متزايدة في السنوات الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بخلافاتها مع واشنطن حول قضايا مثل دعم الولايات المتحدة للمقاتلين الأكراد في سوريا، بالإضافة إلى التوترات التاريخية مع اليونان، العضو الآخر في الناتو.

هذه الخلافات أدت إلى اهتزاز الثقة داخل التحالف، لكنها لم تصل إلى حد كسر التحالف بشكل كامل، مما يعكس الأهمية المتبادلة للعلاقة بين الطرفين.

بوتين وأردوغان خصمان يتصافحان

تُعد العلاقة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين مثالاً صارخًا على التعقيد في السياسة الخارجية التركية.

فبالرغم من إسقاط تركيا لطائرة روسية في عام 2015؛ فإنها لم تتردد في شراء منظومة الدفاع الجوي S-400 من موسكو. وفي الوقت الذي يقف فيه الطرفان على طرفي نقيض في صراعات إقليمية مثل ليبيا وسوريا وأوكرانيا، إلا أنهما يحافظان على خيط رفيع من التفاهم والتعاون في مجالات أخرى.

هذه العلاقة البراغماتية تعكس المصالح المشتركة التي تجمع بين البلدين، وتبرز قدرتهما على تجاوز الخلافات من أجل تحقيق أهداف استراتيجية.

ملفات الشرق بيد تركيا

لم تعد تركيا مجرد وسيط في قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل أصبحت لاعبًا مباشرًا وفاعلًا في العديد من الملفات الساخنة. فجيشها حاضر في سوريا وليبيا وأذربيجان، ودبلوماسيتها نشطة، وصوتها يصل إلى كل الأطراف.

هذا النفوذ المتزايد يعكس طموح تركيا في أن تكون قوة إقليمية رائدة، وأن يكون لها دور فعال في تشكيل مستقبل المنطقة. إن قدرة أنقرة على التأثير في هذه الملفات المعقدة تمنحها وزنًا سياسيًا ودبلوماسيًا كبيرًا على الساحة الدولية.

الاقتصاد التركي نقطة الضغط

لا يمكن فصل السياسة الخارجية التركية عن واقعها الاقتصادي. فتركيا تواجه تحديات اقتصادية كبيرة، بما في ذلك أزمة الليرة التركية، وارتفاع معدلات التضخم، وتراكم الديون.

هذه الأوراق الاقتصادية تعيق حركة أنقرة وتحد من خياراتها، لكنها في الوقت نفسه تدفعها للبحث عن توازنات جديدة وشراكات اقتصادية متنوعة.

لذا، نرى تركيا تتجه نحو تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول الخليج والصين، في محاولة لتنويع مصادر دعمها الاقتصادي وتقليل اعتمادها على الغرب.

 من يربح من هذا التموضع؟

إن سياسة التموضع المرن التي تتبعها أنقرة تمنحها قدرًا كبيرًا من المرونة في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية. فتركيا تستفيد من علاقاتها مع جميع الأطراف، مما يتيح لها تحقيق مكاسب دبلوماسية واقتصادية.

ومع ذلك، فإن هذه المرونة تأتي على حساب الثقة. فلا يثق بها أحد بالكامل، فالكل يحتاجها والكل يحذرها. هذا الوضع يجعل تركيا في موقف حرج، حيث يتعين عليها الحفاظ على هذا التوازن الدقيق لتجنب فقدان الدعم من أي طرف.

نهاية مفتوحة

تواصل تركيا السير على الحافة بين الشرق والغرب، محاولة الحفاظ على هذا التوازن المعقد. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى متى تستطيع أنقرة الاستمرار في هذه الرقصة الدبلوماسية؟

ففي لحظة ما، قد تُجبر تركيا على الانحياز إلى أحد الطرفين، خاصة مع تصاعد التوترات الجيوسياسية في المنطقة والعالم.

ووفق مراقبون فإن مستقبل تركيا وموقعها في النظام الدولي لا يزالان مفتوحين على جميع الاحتمالات، ويعتمدان بشكل كبير على قدرتها على إدارة هذه التوازنات المعقدة.

أي كفة سترجحها أنقرة؟

في الختام، يبقى السؤال الأهم: في رأيك، أي كفة سترجحها أنقرة في النهاية؟ هل ستستمر في رقصة التوازن بين الشرق والغرب، أم ستُجبر على الانحياز إلى أحد الطرفين؟

إن الإجابة على هذا السؤال تتوقف على العديد من العوامل، بما في ذلك التطورات الجيوسياسية، والضغوط الاقتصادية، والتحولات الداخلية في تركيا.

لكن المؤكد هو أن تركيا ستظل لاعبًا رئيسيًا في المشهد الدولي، وستستمر في إثارة الجدل والتساؤلات حول مستقبلها ودورها في العالم.

اقرأ أيضًا: أزمة محتملة بين واشنطن وأنقرة بسبب 130 مليون دولار… ما علاقة سوريا؟

زر الذهاب إلى الأعلى