على مقاعد المخابرات وحواف السياسة.. فصول لم تُروَ عن عمر سليمان في ذكرى رحيله

في رحاب الذاكرة، يطلّ اسم اللواء عمر سليمان وكأنه سطرٌ خفيّ في كتاب مصر الحديث؛ حاضرٌ في مفاصل القرارات الكبرى، وغائبٌ عن أضواء الإعلام وضجيج السياسة.
في مثل هذه الأيام قبل ثلاثة عشر عامًا، أسدل القدر الستار على حياة رجلٍ ظلّ لسنوات طويلة يجلس خلف الملفات المغلقة، يراقب بحذر، وينسّق بدقة بين خيوط الداخل وتعقيدات الخارج.
عمر سليمان .. شاهد على الأحداث
لم يكن سليمان مجرد رئيس لجهاز المخابرات العامة ولا نائبًا للرئيس في لحظة مصيرية فحسب، بل كان شاهدًا صامتًا على أحداث غيّرت وجه المنطقة، وفاعلًا رئيسيًا في ملفات بقيت طيّ الكتمان.
في ذكرى رحيله، نفتح صفحات قلّما قُرئت، ونستعيد فصولًا لم تُروَ، عن رجلٍ عاش في الظل ورحل تاركًا وراءه أسئلة أكثر من الإجابات.
رجل جمع بين القتال ودبلوماسية المخابرات
في مثل هذا اليوم، 19 يوليو، تمر الذكرى الثالثة عشرة لرحيل اللواء أركان حرب عمر محمود سليمان الفحام، أحد أبرز رموز الدولة المصرية في النصف الثاني من القرن العشرين، والرجل الذي جمع بين القتال في خنادق الحرب والتفاوض في دهاليز المخابرات والدبلوماسية.
ولد في محافظة قنا في 2 يوليو عام 1936، وسط أسرة ميسورة الحال، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بتفوق حتى التحق بالكلية الحربية عام 1952، ليبدأ مسيرة عسكرية حافلة استمرت أكثر من نصف قرن.
من جبهة القتال إلى شرف المشاركة فالحرب
تدرج عمر سليمان في سلاح المشاة، وشارك في العديد من المحطات العسكرية الكبرى، أبرزها قيادته للكتيبة 531 مشاة في حرب أكتوبر 1973.
وفي إحدى أعنف المواجهات، تعرض مركز ملاحظته لقصف مباشر بقذيفة دبابة معادية، تسببت في إصابته شخصيًا، لكنه أصرّ على استكمال المهام القتالية، وهو ما دفع القيادة إلى منحه نوط الشجاعة العسكري.
ساهمت كتيبته في استكمال السيطرة على حصن “البلاح” رغم الخسائر البشرية الجسيمة، ما أثبت كفاءته القتالية وقدرته على إدارة المعركة تحت الضغط.
قيادة الألوية والفرق.. وصعود نحو القيادة العليا
بعد النصر في أكتوبر، تدرج في المناصب القيادية:
رئيس أركان اللواء 116 ميكانيكي عام 1975 .. ثم قائدًا له عام 1977 حتى 1982 .. قائد الفرقة 18 مشاة عام 1983 .. رئيس فرع التخطيط بهيئة العمليات 1984.
وتوازى ذلك مع تطوره الأكاديمي، حيث حصل على ليسانس العلوم السياسية من جامعة عين شمس، ثم ماجستير في نفس التخصص من جامعة القاهرة.
رحلة داخل “العقل الأمني” المصري
في عام 1986، عُيّن نائبًا لمدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع، ثم مديرًا لها في 1989.
وعقب تقاعده من الجيش عام 1991، أصدر الرئيس الأسبق حسني مبارك قرارًا بتعيينه رئيسًا لجهاز المخابرات العامة المصرية، المنصب الذي ظل يشغله لمدة عقدين كاملين.
في هذا الموقع، قاد سليمان ملفات شائكة وحساسة، منها:
الملف الفلسطيني ومفاوضات حماس – فتح
صفقة الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط
الوساطات المصرية مع إسرائيل والسودان
الاتصال المباشر مع الأجهزة الأمنية الدولية الكبرى
وكان أحد أبرز أذرع الدولة المصرية في إدارة ملفات الأمن القومي الإقليمي.
نائب رئيس الجمهورية في لحظة فارقة
في ذروة ثورة 25 يناير 2011، وبعد خمسة أيام من اندلاع الاحتجاجات، عُيّن عمر سليمان نائبًا لرئيس الجمهورية، في محاولة لاحتواء غضب الشارع، لكن تنحي مبارك في 11 فبراير أنهى هذه المرحلة سريعًا.
بعدها، حاول خوض الانتخابات الرئاسية عام 2012، لكنه استُبعد من سباق الترشح لأسباب تتعلق بشروط تأييد المحافظات.
الأوسمة والنياشين.. وسجل لا يُنسى
كرّمه الوطن على مدار مسيرته بـمجموعة كبيرة من الأوسمة، منها:
وسام الجمهورية
نوط الشجاعة العسكري
نوط تحرير سيناء
ميدالية حرب أكتوبر
ميدالية يوم الجيش
ميدالية العيد العاشر لثورة يوليو
وغيرها من 20 وسامًا وميدالية، تُجسد مجمل عطائه الممتد لـ57 عامًا في خدمة مصر.
تلقى عمر سليمان تعليمه العسكري الأساسي في الكلية الحربية بالقاهرة، حيث انضم إلى صفوف القوات المسلحة المصرية عام 1954.
وضمن مسيرته التطويرية، خضع لتدريب متقدم في أكاديمية فرونزي العسكرية بالاتحاد السوفيتي، وهي إحدى أبرز المؤسسات العسكرية في العالم آنذاك.
دراسة عسكرية وسياسية
لم يقتصر تطوره على الجوانب العسكرية، بل حرص أيضًا على دعم خبراته بالعلوم السياسية، فالتحق في ثمانينيات القرن العشرين بجامعة عين شمس، حيث حصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية.
ثم نال درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، إلى جانب ماجستير آخر في العلوم العسكرية، ما أهّله للجمع بين الفكر الاستراتيجي والعمل الميداني طوال مسيرته.
ختامًا.. وداع غامض
توفي اللواء عمر سليمان في 19 يوليو 2012، عن عمر ناهز 76 عامًا، بعد مسيرة حافلة بالعطاء العسكري والاستخباراتي والسياسي.. وجاء رحيله بقدر غموض الرجل ومنصبه، فقد رحل خلال رحلة علاج بالولايات المتحدة الأمريكية، وتم نقل جثمانه ليُدفن في القاهرة.
رحل “رجل الظل”، لكن اسمه بقي محفورًا في سجل الرجال الذين خدموا الوطن بإخلاص، دفاعًا عن الأرض، وسعيًا وراء أمن الأمة، في ميادين القتال، وأروقة السياسة والمخابرات.
اقرأ أيضاً.. مركز الساحل والصحراء يستقبل وفدًا من الناتو في القاهرة.. ماذا دار في اللقاء؟