قصة الخروج بين التاريخ المصري والأساطير العبرانية
كتبت – أميرة أبوشهبة
“قصة خروج اليهود من مصر كما وردت في العهد القديم لم تحدث، وهي مجرد أسطورة.”
هذا ما قاله عالم الآثار الإسرائيلي “زئيف هيرتسوغ”، حيث استخلص من أبحاثه أنّه بالتأكيد وجد اليهود كقومية قبل 3000 عام، لكنّهم لم يأتوا إلى إسرائيل بالخروج من مصر.
تلك النتيجة العلمية تجدها مكررة بين علماء التاريخ والآثار، بل وتجدها على لسان علماء يهود بشكل منصف. ولماذا نستشهد هنا بكلام عالم إسرائيلي؟
لأنّ المسألة حساسة بالنسبة ليهودي إسرائيلي تُمثِّل قصة الخروج الكثير لقوميته ودينه، خاصة بالنسبة لدولة تأسَسَت على قصص الاضطهاد. لذا، عندما يُصرِح أحدهم بالحقيقة العلمية التاريخية مترفعاً عن انتماء عاطفي قومي وديني، يجب أن يحتذي به غيره من علماء التاريخ، خاصة من المصريين الذين تخصُّهم تلك القضية التي لطالما اعتمد عليها أعداءهم في تشويه وطنهم والحط من شأن الحضارة المصرية العظيمة.
لكنّنا وجدنا لغطاً كبيراً عندما أعاد طرح المسألة علَّامة الآثار المصري د. زاهي حواس. فعندما أكدّ السيد بأنّ لا وجود لموسى وفرعون في تاريخ مصر، وجدنا تهكماً وهجوماً غير طبيعي من أشخاص لم يقرأوا تاريخ بلدهم، ولا لهم علاقة بالتاريخ المصري، فضلاً عن إنكار الإثبات العلمي لنفي أسطورة كاذبة عن تاريخ مصر. وهنا عمق الأزمة الثقافية في مصر حالياً.
إنّ مصر تعاني من غياب الطرح العقلاني للعلوم والمعارف بمعزل عن الغوغائية وسطوة الرجعية الدينية على كلّ أسس العلوم والفكر. والتعامل مع مصر باعتبارها معزولة عن العالم أمر في غاية الخطورة.
يتطور العلم وتنكَشِف المعارف، ويوجد ملايين المصريين المطلعين على مختلف المجالات. ومع ذلك، لا يزال البعض يمارس السلطوية على أهل التخصص ذاته. عندما يُصِّرح أشهر عالم Egyptology في العالم عن تاريخ مصر، يجب أن نعتبر كلامه مرجعاً، لا أن نحاربه ونتطفل بأفكارنا الطفولية على تاريخ مصر ونطلق آراء تخصّنا عن تاريخ مصري قديم وقصص أنبياء.
وهنا نتطرق لسبب أكبر لأزمة الفكر المصري يتلخص في التالي:
• عانت الأمة المصرية من تيه واغتراب هوية، مما أخرج للمجتمع أجيالاً في مختلف التخصصات انتماؤهم لمصر سطحي ومعرفتهم بالتاريخ المصري هزلية. ينتمون لقضايا عابرة لحدود الوطن، ويسيطر عليهم إرهاب التدين الشعبوي.
• غاب عن مناهج التعليم المصري منهج تاريخ مصر القديمة بما يليق بأهميته وتفاصيل أسس الحضارة التي شكَّلت نهضة الإنسان من عصور الظلام لنور التحضر. وشكلت علومها وفنونها فجر الضمير الإنساني وأصول التقدم في شتى المجالات. فهي الحضارة الأكمل والأبقى بين حضارات العالم القديم، وتتميز بالاتصال الحضاري الممتد لأكثر من 4 آلاف عام. مما خلق من مصر وطناً قومياً عصياً على التغيير والتدمير مهما مرّ به من احتلال.
• بالطبع، كثرة الاحتلال ومشكلات الهوية أثّرت على المواطن المصري، لكنّ آن الأوان لدولة تفتتح أكبر متحف في العالم لحضارة واحدة، أن تقوم بربط المصري بحقائق تاريخه بدلاً من استمرار ازدواجية الفكر والهوية وإطلاق العنان للتجهيل الإعلامي على حساب أهل التخصص العلمي.
من ناحية أخرى، لا أغفل أنّ من أسباب تدهور العقل الجمعي المصري، حتى في مستويات ثقافية وأكاديمية مرموقة، هو أثر نشر أفكار التطرف الديني من وُعَّاظ سلفيين وتنظيمات الإسلام السياسي. لقد تفنّنَ هؤلاء في تشويه الحضارة المصرية والحطّ من شأن أعرق وأول دولة في التاريخ، مصر التي تمّ فصل أبنائها عن تاريخهم بقصد توجهات رجعية مدروسة.
وفي وجهة نظري، إنّ تنظيم الإسلام السياسي ما هو إلا وجه آخر للصهيونية. يتفق كلاهما على أن الدين وطن بديل لا مجرد اعتقاد إيماني، بل دولة وتاريخ وقومية معاً. ويتفقا كذلك على تشويه مصر كبلد مستبد ظالم، حاكمها فرعون الذي انتصر عليه اليهود وطمسوا أرض وطنه وأغرقوا جيشه. تلك السردية التي تمّ إخضاع مصر لها تحطّمت علمياً وتاريخياً.
ومن الناحية الإسلامية السليمة، ستجد التأويل في القصص كعِبرة دون إسقاط على تاريخ بعينه. لكنّ استمرار تعزيز الرواية العبرانية عن مصر، و إحاطتها بهالة من القداسة، لدرجة أنّهم اخترعوا تقليداً سنياً للصيام مثل اليهود في ذكرى قصة الخروج، هو أمرًُ خطير للغاية.
وبالعودة إلى عالم الآثار الإسرائيلي زئيف هيرتسوغ، فقد كتب في مقالة نشرتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية: “أنّه منذ عام 1948، تعمل الحفريات المكثَّفة في أرض إسرائيل، وتوصّل العلماء إلى نتيجة مرعبة وهي أنّ اليهودية لم تكن هنا. بل إنّ أعمال الآباء ومملكة داوود لا تعدو كونها أساطير، واليهود لم يمروا في مصر ولم يصلوا حتى لها.”
وواصل هيرتسوغ: “إنّ سنوات السبي الطويلة لليهود في مصر والهروب الخارق بقيادة موسى من خلال البحر، ومكوث بني إسرائيل 40 عاماً في سيناء، والتصديق بوعد الربّ في سبناء وصولًا لغزو أرض الميعاد… كلّ ذلك مجرد أساطير دينية.”
يُذكر أنّه رغم توثيق التاريخ المصري كما لم تُوثَّق حضارة على وجه الأرض، ووجود مئات ألوف المواقع التاريخية المُحقَّقة والمعابد والأثار المصرية، لم يعثر علماء الآثار، وهم بالآلاف، على أيّ دليل على وجود قصص التوراة في مصر. وعلى الرغم من وجود أدلة قديمة على مراسلات وعلاقات مع شعوب وحكام وشخصيات أجنبية، لم يُوثَّق أبداً في تاريخ مصر القديم والوسيط ما قبل الروماني وجود يهود في مصر أو قصص من المشهورة في المرجعيات الدينية.
كما لم تعرف مصر العبودية عبر تاريخها القديم، ولم يشارك في بناء صروح الحضارة المصرية القديمة أجانب أو مستعبدين كما تدّعي أساطير اليهود.
أخيراً، تظل مهمة عودة الوعي للمصريين مهمة مُقدّسة، وإعادة ربط المصري بجذوره وحضارته العظيمة هي قدس الأقداس.