كيف أسقط نقش أبرهة الحبشي محاولة المستشرقين التشكيك في القرآن؟
دراسة سعودية تُجهز على آخر أسطورة استشراقية عن عام الفيل

في خضم التداخل بين النصوص الدينية والنقوش الأثرية، تبرز أحيانًا تفسيرات أو قراءات تسعى إلى إعادة تأويل بعض الآثار القديمة لإثبات فرضيات ذات أجندات تزعم أنها تستطيع نقض الروايات الإسلامية المتواترة. إحدى هذه الحالات تتعلق بـ”نقش أبرهة الحبشي” المكتشف قرب بئر مريجان، والذي جرى تأويله على يد عدد من المستشرقين على أنه يوثق لحملة أبرهة الشهيرة ضد الكعبة وقبيلة قريش، فيما عرف بعد ذلك بعام الفيل.
غير أن دراسة رصينة نُشرت سنة 1990، ضمن قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك عبد العزيز، وأعدها الدكتور عبد المنعم عبد الحليم السيد، جاءت لتقلب الطاولة على هذه التفسيرات، وتُعيد قراءة النقش ضمن سياقه التاريخي والجغرافي واللغوي، داحضة بذلك معظم المزاعم حاولت التشكيك في القرآن الكريم.
لا تتعامل هذه الدراسة مع النقش كدليل عابر أو معزول، بل تقاربه بوصفه وثيقة حميرية مكتوبة بلغة مسندية، تتطلب قراءة داخلية متأنية، بعيدًا عن الإسقاطات الدينية أو التأويلات السياسية التي أُلصقت به من خارج بنيته النصية الأصلية.
اقرأ أيضا: كيف وُلد علم التاريخ في الإسلام؟
ما هو نقش مريجان؟
النقش الذي دارت حوله أغلب القراءات الاستشراقية الحديثة تم اكتشافه في منتصف القرن العشرين، وتحديدًا سنة 1951، بمنطقة بئر مريجان الواقعة شمال شرق نجران وبمنطقة تثليث جنوبي المملكة العربية السعودية، وذلك على أيدي بعثة سميت ببعثة “ركمانز – فلبي – لبنز” أثناء طوافها في المملكة العربية السعودية لجمع نقوشها. وأول من نشر هذا النقش وترجمه للفرنسية هو عالم اللغات السامية “جونزاج ركمانز” وأعطاه الرمز RY 506.
وقد نُسب هذا النقش إلى أبرهة الحبشي أو أبرهة الأشرم، القائد الحبشي الذي تولّى حكم اليمن في منتصف القرن السادس الميلادي نيابة عن الاحتلال الحبشي بعد القضاء على الدولة الحميرية.
اعتمد رايكمانز، في ترجمة نقش أبرهة الحبشي على نسخ حجرية وصور أولية للنقش. وقد فُهم من قراءته أن أبرهة قاد حملة عسكرية على قبيلة معدّ، وهي إحدى القبائل العربية الشهيرة، ثم عاد إلى اليمن منتصرًا، وسُجّلت عودته في ذلك النقش.
ومع مرور الوقت، تطورت هذه القراءة لتأخذ مسارًا أكثر إثارة للجدل، حيث بدأ بعض الباحثين – خصوصًا في الاتجاهات الاستشراقية – يربطون هذا النقش بحادثة الفيل، زاعمين أن النقش يوثق تلك الحملة تحديدًا، وأنه يُشير إلى أن أبرهة عاد سالمًا، ما قد يتعارض مع الرواية القرآنية في سورة الفيل التي تقول: “فجعلهم كعصف مأكول”.
لكن هذا الربط، بحسب ما تبيّنه دراسة الدكتور عبد المنعم عبد الحليم، كان نتيجة قراءة قاصرة، ومبنية على نسخ مزورة أو غير دقيقة للنص الأصلي للنقش.

زيارة ميدانية وتصوير مباشر .. أركان القراءة المنهجية الجديدة
نقطة التميز المركزية في دراسة الدكتور عبد المنعم تكمن في أنها لم تعتمد على النسخ المطبوعة أو الصور الثانوية للنقش، بل انطلقت من زيارة ميدانية مباشرة إلى موقع النقش، ما أتاح للباحث إعادة قراءة النص من مصدره، ومقارنته بالصور الأصلية وبالأثر المنقوش نفسه.
وقد أظهر هذا العمل الميداني مجموعة من النتائج الحاسمة أولًا، أن قراءة رايكمانز للنقش كانت غير دقيقة، وشهدت سقوطات في العديد من الكلمات والجمل، ما أدى إلى تأويلات غير صحيحة. إضافة إلى أن كثيرًا من الأسماء الواردة في النقش تعود إلى قبائل نجدية مثل معدّ وغيرها، ولا توجد أي إشارة فيه إلى مكة أو الكعبة أو قريش أو حتى الفيلة، ما يُبعد أي إمكانية للربط بينه وبين حادثة عام الفيل.
وتشير الدراسة إلى زمن الحملة المذكورة في النقش يسبق على الأرجح سنة الفيل نفسها، وهو ما يعني أن النقش يتناول واقعة مختلفة تمامًا، ولا علاقة له بمحاولة أبرهة لهدم الكعبة كما رواها القرآن الكريم والمصادر التاريخية الإسلامية.
كما تؤكد الدراسة أن البعثة لم تنتبه إلى نقش آخر صغير بجوار النقش المذكور، برز فيه اسم أحد القادة المحليين البارزين الذين شاركوا في الحملة التي شنها أبرهة الحبشي على قبائل نجد، وهو منسي بن ذرانح. وقد أفرد له الدكتور عبد المنعم عبد الحليم اهتمامًا خاصًا، مؤكدًا أن ظهوره في النص المنقوش ليس مجرد ذكر عابر، بل يعكس دورًا وظيفيًا قياديًا داخل جيش أبرهة. فـ”منسي” هذا – كما استنتج الباحث – كان قائدًا ميدانيًا على رأس قوة عسكرية شاركت في تأديب القبائل المتمردة، وتحديدًا في المناطق التي وصفتها النقوش بأنها “لم تذعن لأمر الملك”.
قام الباحث بقراءة مقارنة بين نقشين في بئر مريغان: النقش الصغير والنقش الكبير، وتبيّن من التحليل أن العبارات الناقصة أو المطموسة في النقش الكبير تتعلق بالفعل بأسماء شهور، وقبائل، ومواقع، هذه الأسماء مترابطة زمنيًا وجغرافيًا، وتشير بوضوح إلى أن الحملة التي يتحدث عنها النقش كانت موجهة إلى قبائل نجد، وليست إلى مكة أو الكعبة. كما شدّد الباحث على أن أسماء القبائل والمواقع المذكورة في النقش لا تتطابق مع تلك التي وردت في الروايات العربية الموثقة عن حملة الفيل.
وخلص إلى أن النقش يروي وقائع حملة مختلفة تمامًا، استغل فيها أبرهة صراعًا قبليًا داخليًا لضرب خصومه، لا علاقة له بالكعبة أو قريش أو مكة. بالتالي، فإن هذه النقطة تُعد محورية في تفنيد الزعم القائل بأن نقش مريجان يوثّق لحملة أبرهة على الكعبة، وقد بُنيت عليها باقي حجج الدراسة في دحض هذا الربط الخاطئ.
اللغة المسندية والمفاتيح الجغرافية .. تفنيد الترابط الزائف مع مكة
من أبرز حجج الدراسة في تفنيد المزاعم التي ربطت النقش بحملة الفيل، أنه لجأ إلى تحليل لغوي دقيق للنص المسندي، وهو نوع من الخط العربي الجنوبي القديم الذي كُتبت به أغلب النقوش الحميرية. وقد توصّل إلى أن الأسماء الجغرافية المذكورة لا تشير إلى مكة أو الحجاز، بل إلى مناطق تقع إلى الشمال الشرقي من اليمن، وهي مناطق قبائل نجد، كالهجر واليمامة والخرج وغيرها.
الخطأ في قراءة هذه الأسماء – كما توضح الدراسة – كان السبب الأساسي في تفسير خاطئ للنقش، ومحاولة سحبه نحو رواية دينية لم يُشر إليها أصلاً. ويعود هذا الخطأ في جزء منه إلى تعجّل المستشرقين في نقل النقوش إلى السياق الإسلامي، طمعًا في ربط أي وثيقة حميرية بما قبل الإسلام، خصوصًا إذا ذُكر فيها اسم أبرهة، الذي يُعد أكثر الشخصيات الحبشية حضورًا في التراث العربي قبل البعثة النبوية.
هذا التحليل الجغرافي يتكامل مع التحليل اللغوي ليؤكد أن الحملة المذكورة في النقش كانت عسكرية بحتة، تهدف إلى إخضاع بعض القبائل المتمردة التي لم تخضع لسلطة أبرهة المركزية في اليمن، ولا علاقة لها بالحج أو الكعبة أو مكة بأي شكل من الأشكال.
تهافت المزاعم الاستشراقية .. النقش لا ينقض القرآن بل يؤكده
أحد الأبعاد الخطرة التي أُلصقت بهذا النقش تمثلت في محاولة بعض الأصوات، داخل دوائر أكاديمية أو إعلامية استشراقية، استخدامه كوسيلة لتقويض الرواية القرآنية عن هلاك جيش أبرهة. لكن الدراسة تؤكد أن هذا التفسير يفتقد إلى أي مرتكز علمي أو منطقي.
بل على العكس، فإن وجود هذا النقش، بما يحتويه من معلومات عن حملات أبرهة الأخرى، يؤكد تعدد حروبه وتوغلاته في شبه الجزيرة، ما يُعزز احتمال وقوع حادثة الفيل كواحدة من هذه الحملات، ولكنها انتهت وفق الرواية القرآنية بهلاك الجيش بفعل إرادة ومعجزة من الله.

وتقول الدراسة إن عدم ذكر مكة في نقش مريحان لا ينفي وجود حملة أبرهة ضدها، تمامًا كما أن عدم ذكر الفيل لا يعني أن أبرهة لم يستخدمه، بل فقط أن هذا النقش لا يتعلّق بتلك الحملة تحديدًا.
كيف نحمي تراثنا من القراءات المجتزأة؟
الدرس الأهم الذي تقدّمه دراسة عبد المنعم عبد الحليم هو ضرورة التريّث والصرامة العلمية في التعامل مع النقوش والوثائق القديمة. فلا يجوز القفز إلى نتائج كبرى أو فرضيات كاسحة لمجرد وجود كلمة توحي بشبه، أو اسم قبيلة يتكرر في أكثر من موضع.
بل إن الدراسة تبرز أن بعض الترجمات السابقة وقعت في الترجمة الحرفية دون فهم السياق، وهو ما أدى إلى تضليل الكثيرين، خصوصًا غير المتخصصين، الذين ظنوا أن النقش يروي قصة “عام الفيل”.
وبهذا المعنى، فإن العمل يُعد مساهمة مهمة في إعادة الاعتبار للمنهج التاريخي العربي، القائم على التدقيق والربط والتحقيق، بعيدًا عن الإسقاطات السياسية أو الأيديولوجية التي ابتلي بها جزء من الدراسات الاستشراقية.
النقش شاهد تاريخي… لا وثيقة دينية
في المحصلة، لا يقدم نقش مريجان أي تناقض حقيقي مع القرآن الكريم، بل هو نقش حميري عسكري يوثّق لحملة ضمن عشرات الحملات التي خاضها أبرهة في الجزيرة العربية، وهو جزء من الخلفية التاريخية العامة التي سبقت الإسلام.
الدراسة المنشورة في جامعة الملك عبد العزيز لا تُثبت فقط عدم صحة المزاعم التي ربطت النقش بحادثة الفيل، بل تكشف عن هشاشة الأسس التي بُنيت عليها تلك المزاعم، وضرورة إعادة قراءة تراثنا المادي بعين عربية متخصصة، لا بعين الترجمة الغربية وحدها.