من الحصار إلى الفوضى.. كيف أصبح الجوع أسوأ في غزة؟

في الأسابيع الأخيرة، اتخذت أزمة الجوع في غزة منعطفًا كارثيًا. فما كان في السابق صراعًا للحصول على ما يكفي من الغذاء أصبح محنة حياة أو موت لمئات الآلاف من الفلسطينيين، حيث فقد الكثيرون حياتهم في هذه العملية.
وفقًا لمسؤولي الصحة وعمال الإغاثة، أدى سوء التغذية الحاد والعنف في مواقع الإغاثة إلى مقتل العشرات، ويستمر الوضع في التدهور وسط نظام إيصال مساعدات متهالك ونزاع لا هوادة فيه.
من الحصار إلى الفوضى: كيف قُلّصت المساعدات الغذائية
بدأت الأزمة بالتفاقم في مارس عندما فرضت إسرائيل حصارًا شبه كامل على المساعدات الإنسانية الداخلة إلى غزة، بهدف الضغط على حماس لتقديم تنازلات، مدعيةً – دون أدلة قاطعة – أن حماس تُحوّل مسار الإمدادات. إلا أن هذه الخطوة لم تُسفر إلا عن تفاقم معاناة سكان غزة العاديين.
بحلول مايو، وتحت ضغط دولي متزايد، أطلقت إسرائيل برنامجًا جديدًا لتوصيل المساعدات تديره مؤسسة غزة الإنسانية (G.H.F.). وخلافًا للنظام السابق الذي تديره الأمم المتحدة، والذي كان يوزع الغذاء في مئات المواقع، أنشأ النظام الجديد أربعة مواقع رسمية فقط للمساعدات – جميعها تقع في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، ولا يوجد أي منها في شمال غزة.
غالبًا ما كان يُفتح موقع واحد فقط يوميًا، مما يُجبر العديد من الفلسطينيين على السير لساعات عبر مناطق خطرة مزقتها الحرب لمجرد الوصول إلى الإمدادات الغذائية الأساسية.
عبور الخطوط العسكرية: المخاطرة بالأرواح من أجل الإغاثة
أدى إجبار المدنيين على عبور الخطوط العسكرية الإسرائيلية للحصول على الغذاء إلى زيادة المخاطر بشكل كبير. ووفقًا لوزارة الصحة في غزة، قُتل أكثر من 600 شخص أثناء محاولتهم الوصول إلى مواقع توزيع المساعدات الجديدة.
يؤكد المسؤولون الإسرائيليون أن جنودهم يستخدمون الذخيرة الحية فقط لتفريق الحشود المهددة أو كطلقات تحذيرية، لكن شهود العيان وأدلة الفيديو تؤكد استخدام القوة المميتة في كثير من الأحيان، وأحيانًا بقذائف المدفعية. وتشكك مؤسسة الإغاثة الإنسانية في بعض التفاصيل، لكنها تُقر بالخطر الكامن في جمع الغذاء في منطقة حرب نشطة.
تكشف الصور ومقاطع الفيديو عن حشود من الفلسطينيين اليائسين يسلكون طرقًا محفوفة بالمخاطر بالقرب من الدبابات والمواقع المحصنة، دون أي ضمان للسلامة أو حتى النجاح في الحصول على المساعدات.
فوضى وندرة: مواقع المساعدات تُفتح وتُغلق دون سابق إنذار
تعاني نقاط التوزيع الجديدة المدعومة من إسرائيل من عدم القدرة على التنبؤ. ففي كثير من الأحيان، تصل المعلومات حول فتحها قبل أقل من ساعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتُغلق المواقع فورًا تقريبًا مع نفاد الإمدادات.
كثيراً ما يتحول التدافع للحصول على المساعدات إلى فوضى عارمة – فبدون طوابير منظمة، أو بنية تحتية، أو حتى ظل، يندفع من يملكون القوة الكافية لاقتناص ما يستطيعون، بينما يغادر الكثيرون خاليي الوفاض. وقد فاقمت حالات التدافع المميتة وحوادث استخدام الغاز المسيل للدموع من قبل متعاقدي الأمن الأمريكيين هذا الخطر، مما أسفر عن عشرات الوفيات الإضافية.
سوء التغذية يتفاقم: أسعار باهظة وأمل متضائل
عواقب هذه الفوضى واضحة. فقد ارتفعت معدلات سوء التغذية في غزة بشكل حاد، حيث أفادت التقارير أن أكثر من واحد من كل ثلاثة أشخاص يقضون أياماً دون طعام. ويؤكد مسؤولو الصحة حدوث وفيات بسبب الجوع، وخاصة بين الأطفال.
أما بالنسبة لأولئك غير القادرين أو غير الراغبين في المخاطرة برحلة مميتة إلى مواقع الإغاثة – وهم غالباً من كبار السن أو المرضى – فإن الخيار الوحيد هو شراء الطعام من السوق السوداء بأسعار فلكية: الطماطم بسعر 30 دولاراً للكيلوغرام، والسكر بأكثر من 100 دولار.
حتى مع السماح لبعض قوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة بالعمل في مناطق معينة، إلا أن القيود المستمرة، و”فترات” التوزيع غير المتوقعة، والظروف المكتظة والخطرة، لم تترك لغالبية سكان غزة سوى القليل من الإغاثة.
اقرأ أيضا.. غضب عالمي من مجاعة غزة.. هل تتفاقم عزلة إسرائيل؟
الإسقاطات الجوية: حل يائس وغير كافٍ
ردًا على الغضب العالمي، أعلن الجيش الإسرائيلي استئناف عمليات الإسقاط الجوي للمساعدات، وانضمت إليه دول مثل الأردن والإمارات العربية المتحدة. ومع ذلك، يحذر الخبراء من أن عمليات الإسقاط الجوي مكلفة، وتشكل تحديًا لوجستيًا، وغير كافية – فإسقاط جوي واحد لا يوصل سوى أقل بكثير من قافلة شاحنات واحدة، ولا يمكنه تلبية احتياجات السكان المحاصرين. كما أسفرت محاولات سابقة للإسقاط الجوي عن وفيات بين المدنيين بسبب هبوط خاطئ أو حوادث.
كما صرحت وزارة الخارجية البريطانية بصراحة: “الإسقاط الجوي وحده ليس الحل. الشاحنات وحدها هي القادرة على إيصال المساعدات بالقدر المطلوب”.
التجويع سلاحًا، ومعضلة العالم
لم تعد أزمة الجوع في غزة مجرد حالة طوارئ إنسانية، بل هي نتيجة مباشرة لسياسات حوّلت إمدادات الغذاء إلى سلاح في سياق الصراع المستمر. وبينما تتمثل النية المعلنة في السيطرة على تدفق المساعدات وإضعاف حماس، فإن الواقع المعيشي لسكان غزة العاديين هو صراع لا ينتهي ضد الجوع والعنف.
ما لم يحدث تغيير جوهري في السياسات والممارسات، سيتفاقم الجوع في غزة، وستكون عواقبه وخيمة على الفئات الأكثر ضعفًا.