فن وثقافة

الإصلاح العلمي والفكري المعركة الأخيرة

الإصلاح العلمي لا مُصطلح التنوير هو ما أميل إليه برغم تقديري لمُصطلح التنوير في سياقاته، ربما لأننا فشلنا فيه كثيرًا، وربما لأصوله وجذور نشأته، وما أميل إليه بدلا منه هو “إصلاح الحياة العلمية والفكرية”، فهذا هو في رأيي ما نحتاجه قبل أن نخوض في مشاكل الجمود الديني ومعارك تجديد الخطاب الديني وكل هذه العبارات التي تعود إلى فلاسفة أوربا في عصر التنوير.

ما نحتاج إليه بشكل فعلي هو إصلاح الحياة العلمية والفكرية بأي شكل من الأشكال وبأي بداية وبأي قوة، فالمهم أن نفعل هذا وفي أسرع وقت.

الحضارات الناطقة بالعربية والحضارات الإسلامية في غالبيتها تعيش بأشكال متفاوتة أزمات معرفية وعلمية وفكرية رهيبة، وتكاد تكون مرعبة في ظل عالم أصبح تطوره العلمي والمعرفي يمضي بتسارع أُسِّي. في حين تخوض هي في مزيد من التراجع والانحدار العلمي والفكري بالمعدل ذاته من السرعة الذي تتقدم به الدول المتقدمة.

إصلاح الحياة العلمية والفكرية مختلف تمامًا وبشكل كلي عن إصلاح التعليم سواء جزئيًا أو كليًا. إصلاح الحياة العلمية والمعرفية والفكرية أمر يأتي من أعلى. قد يكون إصلاح التعليم جزءًا منه، لكنه ليس هو نفسه، فإصلاح الحياة العلمية والفكرية هو ترسيخ لمبادئ يحترمها الجميع من حرية التفكير والإبداع والابتكار العلمي والجدل/الديالكتيك العقلي المثمر والمتنامي.

لا أحب أن أقول أنها معركة تنوير، وكأن هناك فريقا مستنيرًا يخوض معركة ضد فريق مظلم، لأنها في الحقيقة ستكون معركة الإصلاح العلمي والفكري الأخيرة. هي معركة حقيقية نصارع فيها أنفسنا وإشكالياتنا بإرادة موحدة، كما نصارع الزمن.

الإصلاح العلمي وثورة الذكاء الإصطناعي

يتحدث العالم كله الآن عن منعطف خطير وتحوّل كامل وجذري لم يحدث في تاريخ البشر منذ آلاف السنين. يرتبط هذا المنعطف بثورة الذكاء الإصطناعي الفائق. وهو تحول خطير في كل شيء وليس مجرد نقلة نوعية في التكنولوجيا. إنها النقطة المتفردة التي توصل فيها البشر لإنجاز علمي في غاية الخطورة عن تنمية عقل الآلة أو الذكاء الاصطناعي، بما يجعله يحاكي قدرات المخ البشري وشبكاته العصبية بشكل متطابق في قدرات المعالجة ويفوق المخ البشري ملايين ومليارات المرات في السرعة وحجم البيانات والمعلومات التي يقدر على معالجتها.

لهذا التحول الجذري تبعات عظيمة وخطيرة ستنسحب على كل مناحي الحياة، من النظام المالي والبنكي وحتى دور العبادة والنصوص الدينية والقصص والسرديات والتراث وغيرها الكثير من مجالات الحياة.
ستتغير جذريًا أشكال وسائل التواصل الاجتماعي، وستكون أمامها فرص واحتمالات كبيرة لمزيد من التلاعب باللغة، والتلاعب بالعقل البشري، والتأثير في الجماهير، وإنشاء علاقات حميمية ومؤثرة مع البشر فيما يتراوح بين الحقيقي والمزيف.

يمضي البحث في هذا المجال بشكل متسارع مهول، حيث يكون فيه كل أسبوع تقريبا اكتشافات جديدة. والأكثر خطورة أنه يمضي في إطار من السرية والتكتم بين كثير من الدول والشركات الكبرى العاملة على تطويره، وما يتم إعلانه محدود جدا ويرتبط ببعض التطبيقات التجارية أو التوظيفات المحدودة في بعض الأجهزة التجارية من الهواتف المحمولة أو تطبيقات الكمبيوتر، لكن الجزء الأكبر والأخطر وما يمكن أن يمثل مفاجأة حتى للمشتغلين في المجال نفسه، هو ما يرتبط باستخدامات أثقل وأشد خطورة. تلك الاستخدامات تتصل بالتوظيفات العسكرية للذكاء الاصطناعي الفائق، وهو ما سبق وحدث من قبل في أكثر من منعطف علمي خطير. نذكر كيف مضت أبحاث القنبلتين الانشطارية والاندماجية في إطار من السرية ليكون السلاح مفاجئًا، ثم خرجت بالتدريج للبشر في الاستخدامات السلمية وإنتاج الطاقة. الأمر نفسه بالنسبة للكمبيوتر الذي بدأ بتوظيفات عسكرية سرية حتى عقود، ثم خرج للعلن تدريجيًا في المجالات التجارية وتصنيع الأجهزة.

الإصلاح العلمي وتنمية المسار الفلسفي

لا يختلف السباق الحالي في مجال الذكاء الاصطناعي الفائق عما سبق طالما أن العالم مع الأسف العميق مازال محمّلًا بمشاعر الكراهية للآخر وأشكال عديدة من الصراعات. ولهذا، فأتصور أن معركة الإصلاح العلمي والمعرفي يجب أن تكون معركتنا جميعا ضد أنفسنا جميعا، حيث نسابق فيها الزمن قبل أمتار قليلة من خط نهاية السباق. التاريخ والموروث البشري يقولان إن الإنسان الأضعف هو دائما من يدفع الثمن.

إن أي تهاون في هذه المعركة ستدفع ثمنه مجتمعاتنا المتكاسلة. ولابد من إصلاح جذري للجامعات بما يجعلها في أقصى درجات الشغف الحقيقي بالعلم والمعرفة والاستكشاف، وبخاصة في المجالات المادية والفكرية المرتبط بالواقع الفعلي. إصلاح الجامعات يكون عبر مسار الأمم، بتنمية التفكير الفلسفي، وإصلاح أقسام الفلسفة في الجامعات بعد أن غلبت عليها مجموعات ذات توجهات معينة منذ السبعينيات. الفلسفة أم العلوم وهي ما تعطي كثيرًا منها منطقًا وتصورات مبررة، وتنمي شغف البحث، وتمنح الأطر المنهجية المتصاعدة التي تشكل تراكمًا علميًا يستفيد منه المجتمع في التصنيع والابتكار.

وكذلك لابد من إصلاح منظومة العلوم الأساسية في الجامعات، مثل الرياضيات والفيزياء، وألا يتم تدريسهما مبتوربن عن أصولهما وجذورهما ومنطلقاتهما الفلسفية، التي تمنحهما المنطقية والتراكم.

من الغرابة أن تكون درجات الدكتوراه أصلًا درجة الفلسفة في العلوم لباحث أو طالب لم يدرس الفلسفة. إلى جانب بعض الإصلاحات الأخرى التي يجب أن نكون صادقين فيها تمامًا ومقتنعين بها كل الاقتناع، ويمكن تفصيل القول فيها في مقال آخر.

 معركتنا جميعًا

سيغير الذكاء الاصطناعي الفائق العالم كله بشكل جذري ويعرض العالم لتحديات من نوع جديد، منها ما يتصل بالتشريعات سواء المحلية أو الدولية، والي تتصل بأطر للاستخدام الآمن وحقوق الملكية الفكرية وتحجيمه عن التلاعب بالجماهير وصناعة الفوضى، ومنها ما يرتبط بالبنية الاجتماعية ومجالات العمل والتوظيف، ومنها ما يتصل بالجوانب النفسية والسلوكية للجماهير، ومنها ما سيشتغل على الجوانب الاقتصادية والدعاية وحالات من التلاعب والخديعة وسرية البيانات وتزييف الحقائق، وغيرها الكثير من التحديات. مع الأسف تأخرنا كثيرًا في طرحها، والغريب أننا في بعض الأحيان نطرحها بنوع من الانبهار والدهشة المستمتعة بعيدا عن القلق والتقدير الجاد لمخاطرها وآثارها.

إصلاح الحياة العلمية والفكرية هو تحدينا مع أنفسنا. وليس بالأمر الصعب أو الغريب أو المشروع الهلامي، بل له خطواته وإجراءاته العملية. المهم دائما هو الإرادة المجتمعية وضرورة الشعور بأنها معركة وجود وبقاء. إن لم تنجح مجتمعاتنا في هذا التحدي، فأتصور أنها ستكون في أقصى درجات التهديد وباحتمالات وسيناريوهات عديدة. في هذا الصدد، هناك كلام لأحد المفكرين الإسرائيليين عن أن الذكاء الاصطناعي الفائق سوف يعيد منطقة الشرق الأوسط إلى أشكال جديدة من الاستعمار التكنولوجي حسب ما أصبح محتملًا بقوة له من آثار وإنجازات. نحن هنا لا نردد كلام هذا المفكر باستسلام أو ترويج لمنطق التفوق، ولكن ليكون محل نظر وتأمل في إطار من التفكير العقلاني وفي ضوء المقدمات التي يأتي منها هذا الطرح أو التصور.

من ينشغل بمستقبله ويكون مهمومًا بمستقبل أمته يجب أن ينصت لكل الآراء ، ويجب أن يركز في قراءة هذا المستقبل ومؤشراته أو احتمالاته، بدلا من أن ينشغل بمعارك الماضي وشجاره الذي لا ينتهي. إن الأمة التي تكثر من التلفت وراءها وتركز نظرها على الماضي على نحو ما هو حاصل هي أمة معرضة لكل خطر.

كتب- د. محمد سليم شوشة

زر الذهاب إلى الأعلى