وجه إسرائيل الحقيقي لم يتغير.. من بحر البقر إلى أطفال غزة

تخيل أن تبدأ صباحك كأي طفل.. ترتدي زيك المدرسي، تحمل كراستك على صدرك، وتقبّل يد أمك قبل أن تغادر البيت إلى مدرستك الصغيرة في قريتك الهادئة.

تضحك في الطريق، وتتبادل الحكايات مع زملائك، تدخل الفصل، تجلس في مقعدك الخشبي البسيط، تستمع لصوت المعلمة وهي تشرح درسًا جديدًا في الحساب أو القراءة… وفجأة، يتبدل كل شيء.
ينفجر المكان، تتناثر الأجساد الصغيرة، تختلط الكراسات بالأشلاء، والحقائب المدرسية بالشظايا، وتتحول المدرسة إلى مقبرة.

إعلان

قرية بحر البقر المصرية صباح 8 أبريل 1970

30 طفلًا استُشهدوا، وأحلامهم ما زالت على المقاعد.
30 أمًا لم يسمعن صوت ضحكات صغارهن.
و55 طفلاً آخرين أُصيبوا، بعضهم لم يعد يمشي، ولم يعد يرى، ولم يعد يبتسم.

وجه إسرائيل الحقيقي لم يتغير.. من بحر البقر إلى أطفال غزة

ففي صباح الثامن من أبريل عام 1970، استيقظ العالم على واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في حق الإنسانية، حين قصفت طائرات “الفانتوم” الأمريكية الصنع مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة في محافظة الشرقية بمصر، لتسفر عن استشهاد 30 طفلًا وإصابة أكثر من 50 آخرين، معظمهم بإعاقات مستديمة، ودمار كامل للمدرسة ذات الطابق الواحد.

مذبحة بحر البقر
آثار العدوان الإسرائيلي على مدرسة بحر البقر بمحافظة الشرقية

جريمة موثقة

كانت الساعة تشير إلى التاسعة وعشرين دقيقة صباحًا، عندما شنت 5 طائرات إسرائيلية غارة مفاجئة على المدرسة مستخدمة صواريخ وقنابل شديدة الانفجار، ورغم وضوح موقع المدرسة في قرية هادئة بعيدة عن أي أهداف عسكرية، لم تتردد إسرائيل في استهداف أطفال أبرياء داخل فصولهم الدراسية.

ووثقت وزارة الخارجية المصرية الجريمة وقدمتها للأمم المتحدة كدليل على انتهاك إسرائيل الصارخ للمواثيق الدولية، كما أدانتها منظمات حقوق الإنسان حول العالم، في حين ادعت إسرائيل – بوقاحة – أن المدرسة “كانت منشأة عسكرية”.

الصور تكذّب إسرائيل

لكن الصور التي نشرتها الصحف العالمية وقتها، ودماء الأطفال المختلطة بكتبهم وكراساتهم، كذبت كل هذه الادعاءات، وجعلت من بحر البقر رمزًا لجريمة مكتملة الأركان ضد الطفولة.

بحر البقر
صحف مصر توثق الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل بالأطفال

نمط متكرر من الوحشية

تمر اليوم 55 سنة على الجريمة، ومع ذلك ما تزال إسرائيل تكرر المشاهد ذاتها، في ظل صمت دولي أكبر، فانتهاكاتها ضد الأطفال لم تتوقف، بل تصاعدت، لا سيما خلال الحروب على قطاع غزة، حيث وثقت منظمات حقوقية عالمية مثل “هيومن رايتس ووتش” و”أطباء بلا حدود” و”الأمم المتحدة” عشرات الانتهاكات التي استهدفت مدارس ومنازل وملاجئ يقطنها أطفال.

النصب التذكاري الحالي لمذبـ ـحة بحر البقر

وفي الحرب الأخيرة على غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وحتى لحظة كتابة هذا التقرير، استشهد أكثر من 13 ألف طفل فلسطيني، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية في القطاع، بينما لا يزال المئات تحت الأنقاض، المدارس والمستشفيات والمراكز الطبية لم تسلم من القصف، بل إن مدارس “الأونروا” التي تؤوي النازحين كانت ضمن الأهداف.

الطفل الفلسطيني في مرمى النيران

تُظهر تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) أن الطفل الفلسطيني هو الأكثر تعرضًا للعنف الممنهج في العالم، فبجانب الموت، يعاني الأطفال من الاعتقال، الحرمان من التعليم، التهجير القسري، وتدمير البنية التحتية النفسية والاجتماعية.

إسرائيل تستخدم سياسة العقاب الجماعي

وتشير تقارير مؤسسات مثل “بتسيلم” و”المرصد الأورومتوسطي” إلى أن إسرائيل تستخدم سياسة العقاب الجماعي ضد المدنيين، وأن الأطفال غالبًا ما يكونون ضحايا هذه السياسات، سواء بقصف منازلهم أو منع دخول المساعدات الغذائية والطبية.

الضمير الإنساني في اختبار مستمر

وفي الوقت الذي تتغنى فيه دول كبرى بشعارات حقوق الإنسان، يظل الطفل الفلسطيني محرومًا من أبسط هذه الحقوق، فمنذ بحر البقر وحتى اليوم، لم يُحاسب أي مسؤول إسرائيلي عن هذه الجرائم، وهو ما يعكس خللًا أخلاقيًا وقانونيًا صارخًا في النظام الدولي.

أين الإعلام العالمي والضمير الإنساني؟

بل إن بعض الدول الكبرى ما تزال تزود إسرائيل بالأسلحة والدعم السياسي، رغم استخدامها الواضح في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وهنا تبرز أهمية دور الإعلام العالمي والضمير الإنساني في تسليط الضوء على هذه الجرائم وعدم السماح بمرورها في صمت.

رسالة من بحر البقر إلى غزة

تمر السنوات، لكن الذاكرة لا تموت، من بحر البقر إلى غزة، تتشابه المآسي وتتشابك الأوجاع، الفرق الوحيد أن الأطفال الذين استُهدفوا في 1970 لم يكن لهم من يوثق تفاصيلهم عبر الإنترنت، بينما أطفال غزة اليوم تُبث صورهم ودماؤهم حيًا للعالم كله، لكن دون استجابة رادعة.

مذبحة بحر البقر
النصب التذكاري للشهداء الأطفال بمدرسة بحر البقر

وجه إسرائيل الحقيقي

إن جريمة بحر البقر لم تكن حدثًا عابرًا في التاريخ المصري أو العربي، بل هي شاهد دائم على وجه إسرائيل الحقيقي، وجريمة تفرض على العالم أن يعيد النظر في صمته، وعلى الشعوب أن تتذكر وتُذكر، كي لا تتكرر الكارثة.

في ذكرى مدرسة بحر البقر، لا بد أن نُعيد طرح السؤال: كم من الأطفال يجب أن يصبحوا ضحايا حتى يستفيق الضمير العالمي؟ وكم من جرائم يجب أن تُرتكب حتى يُحاكم المجرمون؟
فإذا كانت بحر البقر صفحة من الماضي، فإن غزة تصرخ في الحاضر، تطالب بالعدالة ذاتها التي لم تتحقق حتى الآن.

اقرأ أيضاً: إيران تنشر رادارات غدير المتطورة لردع الولايات المتحدة وإسرائيل

إعلان
زر الذهاب إلى الأعلى