اكتشافات أثرية مدهشة في القرينة تعيد رسم خريطة تاريخ السعودية
القرينة وهضبة العرقوب تكشف أسرار 50 ألف عام من تاريخ نجد

أعلنت هيئة التراث السعودية عن انتهاء أعمال المسح والتنقيب الأثري في أحد المواقع البارزة ببلدة القرينة، الواقعة شمال غرب مدينة الرياض.
وقد جاءت هذه الخطوبة ضمن مشروع وطني طموح لتوثيق ودراسة مواقع التراث في السعودية وفي خطوة جديدة تعكس الاهتمام السعودي المتصاعد بحماية التراث الوطني وإبراز عمقه الحضاري.

اقرأ أيضًا: كتاب سليم بن قيس الهلالي .. أقدم كتاب في التاريخ الإسلامي أم أسطورة ملفقة؟
النتائج جاءت لافتة؛ إذ أسفرت جهود هيئة التراث السعودية عن اكتشاف منشآت دائرية تعود إلى الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، وطريق أثري يمتد من الوادي إلى قمة الهضبة.

كما أسفرت عن الكشف عن قطع فخارية وأدوات حجرية، بعضها يرجع إلى ما قبل 50 ألف عام في فترة العصر الحجري الوسيط، وهو ما يعكس قدم الاستيطان البشري في المنطقة وأهميتها في مسار الحضارات القديمة.
هذا الاكتشاف يعد أحد ثمار مبادرة “اليمامة” التي أطلقتها هيئة التراث السعودية بهدف إعادة رسم الخريطة الأثرية لمنطقة الرياض والمناطق المجاورة.
ويأتي ذلك من خلال مسوحات دقيقة وتقنيات بحثية متقدمة، لتحليل أنماط الاستيطان ودراسة التغيرات الحضارية عبر العصور.
بلدة القرينة .. شاهد على الجاهلية
القرينة ليست مجرد موقع أثري معزول، بل هي جزء من تاريخ حي يعود إلى ما قبل الإسلام بقرون، إذ كانت موطنًا لهوذة بن علي الحنفي، شاعر بني حنيفة وخطيبهم قبيل البعثة النبوية، وحليف كسرى الفارسي، الذي لُقّب بـ “ذو التاج” لما ناله من حظوة عند البلاط الفارسي.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن البلدة كانت تعرف باسم “قرّان” أو “قرآن”، وذكرت في أشعار العرب، ومنها ما قاله جرير: “كأن أحداجهم تحدى مقفية نخلٌ بملهم أو نخل بقرّانا”.
وقد ذكرها الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب”، كما ارتبطت بوجود كنيسة قديمة بنيت قبل الإسلام، كانت شاهدة على انتشار النصرانية في بعض قبائل نجد قبل الفتح الإسلامي.

رسالة الرسول والتحول التاريخي
التحول الأبرز في تاريخ القرينة جاء مع الإسلام، حين بعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم رسالته الشهيرة إلى هوذة بن علي ملك اليمامة، يدعوه فيها إلى الإسلام، قائلاً: “سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك”.
لكن هوذة طلب شرطًا بأن يكون له الأمر بعد النبي، وهو ما رفضه الرسول ودعا عليه، فلم يمض وقت طويل حتى توفي.
لاحقًا، وفد وفد بني حنيفة على النبي وفيهم طلق بن علي، وطلبوا إذنًا بتحويل كنيستهم إلى مسجد، فوهبهم ماءً من وضوئه وأمرهم بكسر الكنيسة ونضح الماء مكانها وبناء مسجد، ليصبح مسجد القرينة – أو مسجد قرّان – أول مسجد يبنى في اليمامة بأمر من الرسول، وفق ما جاء في سنن النسائي وصحيح ابن حبان.

الكنيسة التي صارت مسجدًا
المصادر التراثية، مثل كتابات حمد الجاسر وعبدالله بن خميس، توثق وجود آثار البناء القديم المعروف بـ “الكُنيّسة”، وهي على الأرجح بقايا الكنيسة التي تحولت إلى مسجد.
ويؤكد المعمّرون من أهل المنطقة أن حدود المسجد كانت واضحة حتى وقت قريب، قبل أن تُهمل مع انتقال السكان إلى الوادي وبناء مسجد جديد.
اقرأ أيضًا: كيف أسقط نقش أبرهة الحبشي محاولة المستشرقين التشكيك في القرآن؟
هذا المسجد يمثل شاهدًا حيًا على التفاعل الحضاري والديني الذي شهدته المنطقة، من النصرانية في الجاهلية إلى الإسلام في صدر الدعوة، وهو ما يضفي على الاكتشافات الأثرية الحديثة بعدًا حضاريًا يتجاوز الجانب المادي للتنقيب.

إعادة إحياء القرينة
بعد قرون من الازدهار والانحسار، أعيد إحياء القرينة في عام 1222هـ على يد أبناء سند بن علي الودعاني الدوسري، الذين أسسوا البلدة وزرعوا نخيلها وأقاموا قصرها وأسوارها.
وتشير الوثائق المحلية إلى أن هذا الإحياء تزامن مع موجة من الاستقرار والزراعة في نجد، وهو ما أعاد للبلدة دورها كمركز عمراني وزراعي مهم.
مبادرة اليمامة
الاكتشافات في القرينة هي جزء من خطة أوسع ضمن مبادرة “اليمامة” الأثرية، التي تمتد حتى عام 2028، وتهدف إلى توسيع نطاق المسح الأثري في منطقة الرياض بعمق يصل إلى 100 كيلومتر حول المدينة.
وتشمل أهداف المبادرة إثراء السجل الوطني للآثار، الذي يضم حاليًا 1541 موقعًا أثريًا في منطقة الرياض، بالإضافة إلى تسجيل 1812 موقعًا للتراث العمراني و425 موقعًا للفنون الصخرية والكتابات القديمة.
هذه الأرقام تعكس ثراء المنطقة بالمكتشفات التي تمثل فترات تاريخية متعددة، من عصور ما قبل التاريخ إلى العصر الإسلامي والحديث.

كما تؤكد أن الرياض ليست فقط عاصمة سياسية واقتصادية للمملكة العربية السعودية بل هي أيضًا مركز تراثي عالمي قادر على جذب الباحثين والسياح.
القرينة ورؤية السعودية 2030
تضع رؤية المملكة 2030 الحفاظ على التراث الوطني في مقدمة أولوياتها، ليس فقط بوصفه إرثًا ثقافيًا، بل أيضًا كمورد اقتصادي عبر السياحة الثقافية.
وفي هذا السياق، تمثل القرينة نموذجًا مثاليًا لموقع يجمع بين الأهمية التاريخية والمقومات السياحية؛ فهي تحمل آثارًا تمتد من العصر الحجري الوسيط إلى صدر الإسلام، مرورًا بالحقبة النصرانية والتحول الإسلامي، وصولاً إلى النهضة الحديثة.
تطوير الموقع وإبرازه ضمن خارطة السياحة الوطنية يمكن أن يسهم في تنشيط الحركة السياحية والثقافية في السعودية ويوفر فرصًا للاستثمار في البنية التحتية والخدمات.
هذا فضلًا عن دوره في تعزيز الهوية الوطنية السعودية وربط الأجيال بتاريخ بلادهم.