تاريخ وتراث

الـنــــشــــــو في عصر المماليك

اعداد : إبراهيم عقرب

معروف أن العصور التاريخية كان فيها فترات ظُلم وقهر للعامة وغير العامة والمقال الحالي عن النشو مستوفي الدولة في عهد الناصر محمد بن قلاوون!

كان أبو النشو يكتب عند الأمير بكتمر الحاجب والنشو ينوب عنه، ثم انتقل النشو لـ مباشرة ديوان الأمير أركتمر الجمدار، ثم تولي استيفاء الدولة، ثم باشر ديوان الأمير آنوك ابن السلطان..

وأُكره النشو حتىٰ أظهر الإسلام وكان نصراني وغير اسمه لـ “عبد الوهاب” وتلقب بـ “شرف الدين”وفي سنة ٧٣٢هـ تزوج آنوك ابن الناصر محمد بنت بكتمر الساقي!

وطلب الناصر من الأمير علاء الدين بن هلال الدولة أن يجمع ليه الدواوين ليختار منهم واحد يستخدمه لأبنه آنوك، ووقع اختياره علىٰ شرف الدين النشو.

وفي نفس العام ٧٣٢هـ تولىٰ النشو “نظر الخاص” السلطاني ووظيفة نظر الخاص استحدثها الناصر محمد بعد إلغاء وظيفة الوزارة، وكان ناظر الخاص ليه أن يتحدّث فيما هو خاص بمال السلطان وبقىٰ زي الوزير لقربه من السلطان وتصرّفه، وإليه تدبير جملة الأمور وتعيين المباشرين يعني في زمن تعطيل الوزارة!

لما تولي النشو “نظر الخاص ” بدأ يخلو بالسلطان ويكثر من الوقيعة في الدواوين وأثر كلامة في السلطان حتىٰ ظن الناصر أن النشو هيحصل له مال كتير!!

وبلغ من المكانه ما لم يبلغه أحد من الأقباط في دولة الترك وتقدم عند السلطان علىٰ الجميع. بدأت مصادرات النشو للناس وكان ظلوماً غشوماً جاحداً

وليه مظالم كتير جداً منها أنه طلب تجار مصر والقاهرة وعرض عليهم أصناف من الخشب والقماش بثلاث أضعاف قيمتها!ومنها أنه استدعي ابن الأزرق ناظر الجهات فكتب ليه أسماء أصحاب الأموال من التجار وعرض عليهم قماش بثلاث أمثال قيمته ومن يعترض يُضرب بالمقارع وكان يحصل للسلطان بذلك أموال طائلة!!!

وفي سنة ٧٣٦هـ ابتكر مظلمه جديدة..وهي أنه ألزم أهل الصاغة ودار الضرب لا يبيع أحد منهم الذهب ولكن يُحمل لدار الضرب ليُصك بصكة السطان ويُضرب دنانير!!

المشكلة أن كله كان مخفي عن الناصر محمد ومهما حاول الأمراء تنبيه الناصر مفيش أي استجابة ليهم ودائما كان في صف النشو!!حتىٰ أن طائر حمام وقع بالميدان وعلىٰ جناحة ورقة تضمنت الوقيعة في النشو وأقاربه، والذم في السلطان لأنه خرب دولته.

غضب السلطان وطلب النشو وأوقفه علىٰ الورقة وتنمر عليه بسبب كتر الشكوىٰ فيه.فقال النشو للسلطان ” يا خوند الناس معذورون وحق رأسك لقد جائني خبر هذه الورقة ليلة كُتبت”

فكان النشو بيقدر يثبت السلطان ويقنعه دايما أنه بريء.وفي إحدي المرات بلغ النشو أن الناس اجتمعوا بالوعاظ في الجامع الأزهر وجامع الحاكم ويدعون الله عليه، فطلب من السلطان منع الوعاظ كلهم من الوعظ

وفي سنة ٧٤٠هـ كانت نهاية النشو المؤلمه واتفق الخاصكية عليه وكان النائب عنهم الأمير يلبغا اليحياوي وملكتمر الحجازي ولكن الناصر كان يتغافل عن سيرة النشو لثقته فيه !!

وفي يوم تكلم مع الناصر يلبغا وهو أخص الخاصكية عنده وقال له ” يا خوند والله النشو يضرك أكثر مما ينفعك”!ووجد السلطان كذا ورقة في حق النشو رُميت ليه من غير ما يعرف صاحبها ومنهم ورقة مكتوب بها

أيا ملكا أصبح في نشوة ** من نشوة الظالم في نشيه

أنشيته فلتنشئن ضغائناً**سترىٰ غباوتها بصحبة غيه.

حكّمته فحكّمت أمراً فاسداً**وتوحشت كل القلوب لفحشه.

ولتندمن ندامة كسعية يوماً إذا ذبح الخروف بكبشه

ووجد الناصر ورقة تانية مكتوب فيها..

أمعنت في الظلم وأكثرته ** وزدت يا نشو علىٰ العالم

ترىٰ من الظالم فيكم لنا**فلعنه الله علىٰ الظالم.

قلق الناصر وتخبط عقله وفكرة

وبعت الأمير “قرمجي الحاجب” يستشير الأمير تنكز نائب الشام في أمر النشو!وصل قرمجي وأخبر الناصر أن تنكز استفاض في ذكر مظالم النشو وبغض الممالك له وأن التجار وأصحاب الأموال في خوف شديد من ظلمه!!

وكان يوم وصول قرجي منظر مهولا حيث اجتمع أصحاب الرواتب والصدقات وفيهم الأرامل والأيتام والعميان وهم في بكاء ونحيب فتقطعت القلوب حسرات ورحمة لهم، وشغل الله النشو عنهم بنفسه لما أصابة “قولنج”

وفي ليلة السابع عشر من المحرم صرفوا دعاءهم علىٰ النشو طوال ليلتهم فأصبح النشو مريض وقعد في داره، وحذره الفاضل شمس الدين محمد بن الأكفاني من قطع مخوف يخشىٰ منه إراقة دمه..

فأمر النشو أحد عبيده السود أن يحلق رأسه ويجرحه بحيث يسيل الدم علىٰ جسمه ويكون ده حظه من القطع المخوف.

ويشاء الله أن يلبغا اليحياوي يتعب ويلزم فراشة فقلق عليه الناصر وأقام عنده لأنه كان شغوف به فقال يلبغا للناصر “يا خوند قد عظم إحسانك لي، ووجب نصحك عليّ، والمصلحة القبض علىٰ النشو، وإلا دخل عليك الدخيل، فإنه ما عندك أحد من مماليكك إلا وهو يرتقب غفلة منك، وقد عرّفتُك ونصحتُك قبل أن أموت” وبكىٰ وبكىٰ الناصر لبُكائه.

طلب الناصر الأمير بشتاك وعرفه أن الناس كرهوا النشو، وأنه عزم علىٰ القبض عليه وحضر الأمير قوصون وقرر معهم السلطان أخذ النشو.!

النشو أصبح في ذهنه أن القطع الـ خُوف منه زال لما أمر العبد بجرح رأسه..وكان النشو قرر مع السلطان الحوطة علىٰ أقبغا عبد الواحد، ولكن السلطان وهمه بالموافقه، وأمره أن يجلس علىٰ باب خزانة القصر لحد ما يخرج ليه الأمير بشتاك، ويروحوا للحوطة علىٰ بيت أقبغا..

وراح السلطان وطلب المقدم ابن صابر وأسر ليه أن يقف بجماعته علىٰ باب القلعة وباب القرافة _من أبواب القلعة_ ويقبضوا علىٰ أقارب وحواشي واخوه النشو..

طلع الأمير بشتاك وطلب النشو فظن النشو أن ده معاد الخروج مع بشتاك للحوطة علىٰ أقبغا، وأول ما رآه بشتاك أمر مماليكه أنهم ياخدوه علىٰ بيته.

بعت بشتاك للأمير ملكتمر الحجازي في القبض علىٰ “رزق الله و المخلص” اخوه النشو وكل أقاربه.انتشر الخبر في القاهرة ومصر فخرج الناس وركب بعض الأُمراء للحوطة علىٰ بيوت النشو وأقاربه وحواشيه!

وقال الناصر محمد للأمراء ” وكم تقولون النشو نهب أموال الناس! الساعة ننظر المال الذي عنده”وإلىٰ آخر لحظه كان الناصر يظن أن النشو يؤدي الأمانة و ورع ولا يملك مال كتير زي باقي الأمراء..

لما أحاط الأمراء بدور الممسوكين بلغوا أن حريم النشو في بستان “بجزيرة الفيل” فكبسو البستان ووجدوا فيه ” ستين جارية ” وأم النشو وزوجته وأخته وأولاده وسائر أهله!

وكان يوم عظيم اجتمع فيه الرجال والنساء والأطفال تحت القلعة بميدان الرميلة و “رفعوا المصاحف علىٰ رؤوسهم وولعوا الشموع ونشروا الأعلام” وهم مستبشرون بالقبض علىٰ النشو!فلما أصبحوا وقع الصوت داخل القلعة أن رزق الله أخو النشو ذبــح نفسه ولم يكترث السلطان للأمر !!

دخل الأمراء علىٰ السلطان بما وجدوه عند النشو وكان شيء كثير من فلوس وجواهر ولؤلؤ وذهب وقماش وأواني صيني وبلور وغيرها من الأشياء.خجل الناصر محمد لما شاف الأمر وقال للأمراء مقوله رائعة “لعن الله القبط ومن يأمنهم أو يصدّقهم”

وكتب للأمير “برسبغا الحاجب” وابن صابر المقدم بمعاقبة النشو وأهله حتىٰ المـوت.وقيل أن سبب عقوبة النشو أن أمراء المشورة تحدثوا مع السلطان في أمر النشو وبدأ “سنجر الجاولي” وقبّل الأرض وقال للناصر “حاشا مولانا السلطان من شُغل البال والخاطر وضيق الصدر…”

فقال الناصر “يا أمراء، هؤلاء مماليكي أنشأتهم وأعطيتهم العطاء الجزيل، وقد بلغني عنهم ما لا يليق”قال الجاولي “حاشا لله أن يبدوا من مماليك السلطان شيء من هذا! غير أن علم مولانا السلطان مُحيط بأن مُلك الخلفاء ما زال إلا بسبب الكتّاب، وغالب السلاطين ما دخل عليهم الدخيل إلا منه جهة الوزراء. ومن المصلحة قــتـ ـل هذا الكلب وإراحة الناس منه”

ضُرب المخلص أخو النشو بالمقارع حتىٰ هلك، ودُفــ ـن بمقـ ـابر اليهـ ـود ولحقت به أمه.وتنوعت العقوبة للنشو حتىٰ هلك هو كمان ولقوه بدون ختان ودُفـن بمقـ ـابر اليهـ ـود في كفن قيمته أربعة دراهم!!

وكان النشو محضر سوء لم يُشهر عنه شيء من الخير، وجمع من الأموال ما لم يجمعه وزير للدولة التركية!! وكان مظفّرا وما ضرب أحد إلا ونال غرضه منه بالإيقاع وتخريب دياره وقُـ ـتل علىٰ يده عدة من الولاة والكتاب..

و كانت إحدي مظاهر الظُلم في عصر سلطان واحد من سلاطين المماليك، ونقدر ناخد منها عبرة في أمور كتير جداً في عصرنا الحاضر وكما قال الله تعالىٰ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب﴾وقال تعالىٰ ﴿ إن في ذلك لذكرىٰ لمن كان له قلب أو ألقىٰ السمع وهو شهيد ﴾

زر الذهاب إلى الأعلى