فن وثقافة

جائزة البوكر العربية بين التسييس والمعايير الأدبية

يجبُ علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا توقع كثيرٌ من المهتمين بالرواية العربية أن تذهب الجائزة إلى الروائي الشاب الفلسطيني الأسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي؟ لماذا أصبح المثقف العربي يعرف أن انحياز الجائزة لفلسطين وتفضيلها للروائي الفلسطيني من البديهيات؟

كثيرٌ من الذين توقعوا فوز “باسم خندقجي” بجائزة البوكر العربية لم يكونوا قد قرأوا روايات القائمة القصيرة، بل إن كثيراً منهم توقَّع أن تذهب لأحد الكتّاب الفلسطينيين بصرف النظر عن المستوى الفني.

الأمرُ هنا يتعلق بجائزة البوكر المهمة تعدُّ موجِّهاً أساسياً لحالة القراءة في الرواية العربية. وعن نفسي، وبعد القراءة وقبل إعلان الجائزة، لا أجد مشكلة في فوز “قناع بلون السماء” بالجائزة، وإن كنت أرى أن هناك فارقاً فنياً لصالح رواية المصري أحمد المرسي “مقامرة على شرف الليدي ميتسي”، فهي في تقديري أكثر إحكاماً وأكثر ثراءً بالرمز والتأويل، وتُعدّ قراءة جديدة لهذه الحقبة التاريخية، وشكلاً مغايراً في مقاربة الاستعمار والإمبريالية وأدوارِهما في الشرق الأوسط. ولكن لا أشعرُ بغضاضةٍ كبيرة أو أزمة كبيرة لأن الفارق قد لا يكون فجاً، فتبقى رواية باسم خندقجي “قناع بلون السماء” عملاً ثرياً،  والجميل أنها رواية تُعلي من قيمة الإخاء والسلام، وتنادي همساً وبشكل رمزي بخلاص كل طرف من الطرفين من الآخر بالسلام والذوبان التام والتخلي عن الكراهية، فكل طرف أصبح ظلاً وقدراً سيئاً للآخر.

ولكني مازلت أرى أفضلية للرواية المصرية، فهي واحدة من أجمل الروايات العربية التي صدرت في السنوات الأخيرة، وتُشير إلى موهبة مصرية ضخمة وواعدة، وتُنبِّئ بمزيد من التفرد. ورأيت أنها قابلة للتحويل إلى عمل سينمائي بكل بساطة تبعاً لطبيعة بنيتها وتكوينها الدرامي اللافت، ونماذجها البشرية الثرية. وشعرت وقت قراءتها أنها تناسب نجمين بارزين من نجوم السينما المصرية مثل كريم عبد العزيز وأحمد عز، وخاصة كريم عبد العزيز في دور الضابط السابق وأحمد عز في دور صديقه محترف المراهنات ومنظمها الخفي.

وفيها كل مقومات الفيلم الناجح من الكوميديا والحركة والصراع والتحول والتشويق والانتظار أو التعليق. كما أنها يمكن أن تكون عملاً وطنياً مهماً إذا كان صناع الفيلم مخلصين في تمثيل وتجسيد رسالة الخطاب الروائي بأمانة ودقة، فهي رواية وطنية كاشفة عن أفعال الاستعمار وانتهازيته وسلبيات الفترة الملكية التي صار كثيرون يتغنون بها بشكل مفاجئ الآن متناسين طبيعتها وتفاصيلها السيئة. وكنت أرجو أن تكون من نصيب “المتحدة” فهي الأكثر قدرة على مراعاة هذه الأبعاد.

وكنت أتصور أن الفيلم لو تم إنتاجه ببراعة سينجح نجاحاً كبيراً وسيصبح فيلماً مهماً للمنطقة ودولها وشعوبها ولن يكون مقصورا على مصر، إذ إن مسألة الاستعمار مسألة عامة تخص دول المنطقة وثقافتها كلها، وجزء من تاريخها. كما أن سباق الخيل له رمزيته ودلالاته الكثيرة وله محبوه ويمثل شغفا عاما لدى الإنسان العربي، ومصر لديها مجموعة من الخيول العربية الأصيلة التي ربما لا تتوافر لكثير من الدول.

وبالمثل، فإن رواية “قناع بلون السماء” رواية ثرية، وبخاصة في جزئها الأخير. فبينما ظهرت في البداية بعضُ مؤشرات الارتباط، استقرت الرواية في النهاية على شكلها الفني المميز، لتقدم تجربة روائية مختلفة.

وما يضفي عليها طابعاً فريداً هو أنها تقوم على تيمة معروفة لدينا حققت نجاحاً كبيراً، وهي تيمة التسلل والتخفي، التي نجدها في مسلسل “رأفت الهجان” أيضاً. لكن “قناع بلون السماء” تعالج هذه التيمة بطريقة مختلفة، تراعي مقتضيات اللحظة ومُحدّدات أخرى كثيرة.

في هذه الرواية، نجد هذا الشعور بالتفوق الذي تنتجه قصص النجاح في التخفي وخداع العدو. حيث يتحول الشاب الفلسطيني “نور” المُتخفّي في شخصية الإسرائيلي الأشكنازي “أور” إلى فارس متجول قادر على خديعة العدو. ويصبح المتلقي معايشاً له في مشاعر الترقب والخوف والانتظار من انكشاف سره، كما يصبح محفوفاً بالأمل في نجاح تجربته ووصوله إلى نتيجة في اكتشافه أو في رحلةِ بحثه وتنقيبه عن حكاية مريم المجدلية.

ويُمكن القول بأن الرواية طرحت النموذجين الفلسطيني والإسرائيلي بصورة الوجه والقناع، وبصورة من التداخل والتقاطع بين الشخصيتين أو النموذجين، برغم ما بينهما من العداء. وهذه مساحة ثرية تنتج شعرية الخطاب الروائي القائم على مفارقة مركزية، هي مفارقة التداخل والامتزاج بين الذات وعدوها.
ولا يمكن التقليل من القيمة الأدبية لرواية باسم خندقجي بأي حال من الأحوال، وبخاصة بين النقاد أو الخبراء بالأدب.

ولكن، وهنا نقطة في غاية الأهمية.

كان يتوجب على جائزة البوكر أن تعلن بشكل تفصيلي حيثيات فوز الرواية بالجائزة على أساس فني وجمالي. إذ أن ذلك يبقى المسار الأكثر استدامة في ترسيخ الثقافة الحرة والموضوعية والقائمة على المعايير الجمالية والإنسانية الخالصة والبعيدة تماماً عن أي ظلالٍ للتسييس أو توجيه رسائل أخرى عبر الجائزة.

كان يتوجب على لجنة جائزة البوكر ، ليس في هذا العام فقط ولكن في كل عام، أن تعلن بشكل تفصيلي مبررات فوز أي رواية وأن يكون نقدها مكتوباً في بيانٍ فني شديد الإحكام. إذ يدعم ذلك أدوار الجائزة ويلغي تماماً أي معانٍ سلبية أو أي احتمالات للانحياز أو تَحوُّل الجائزة في بعض الأحيان إلى موقف أيديولوجي أو مظاهرة أو موقف نفسي أو موقف مُتعاطِف. فبعض الجوائز العربية، مع الأسف الشديد، تحوّلت مع الوقت لأن تصير منحة لبعض الأدباء قبل موتِهم، أو أصبحت نوعاً من الدعم المالي أو الأُعطيات أو الهديّة لأسماء كبيرة ومهمة، نعم، ولكن دون معيار أو دون مبدأ واضح.

إن ما يجعل جائزة من الجوائز الأدبية أو أي جائزة في أي مجال ذات تقدير كبير وعظيم هو قدر استقلالها وقدر ابتعادها عن أي معايير أخرى خارج المجال الذي تكون فيه المنافسة. فهذا يجعلها أكثر رسوخاً وأكثر تقديراً وبالتالي أكثر مصداقية وأكثر تصديقاً. وهذا ما نحتاجه جميعاً ويهم المثقف العربي في كل مكان ويصبح في صالح الإبداع العربي والاستدامة الفكرية والثقافية وهذا ما يتوجب على جائزة البوكر العربية.

لذلك، فأرجو من مجلس أمناء الجائزة أن يعملوا بمبدأ البيان أو الإعلان الفني الخالص والتفصيلي الذي يعزز من قيمة الجائزة ويمهد بدرجة أكبر لقراءة العمل الفائز ويدعم المصداقية. فلا أصدق أبدًا مسألة الجودة في الأدب أمر نسبي وخاضع للذوق أو حتى يصعب تبريره. فهذا غير حقيقي. فكل شيء له معايير، والفوارق بين الأعمال الأدبية أصبح من الممكن قياسها بالنانونقد إن جاز التعبير. فقد أصبح النقد الأدبي في أحدث نظرياته قادرًا على رصد الفوارق شديدة الدقة بين الأعمال الإبداعية تبعًا لاحتمالات تأثيرها وتبعًا لطرائقها في التأثير واستراتيجياتها البلاغية وتكنيكاتها السردية، على نحو ما نحدّ في النقد الأدبي الإدراكي مثلاً وفي المادية الثقافية.

إعداد: د. محمد سليم شوشة

زر الذهاب إلى الأعلى