مشروع توشكى في مصر.. من حلم التسعينات إلى واقع 2025

بعد أكثر من ربع قرن على إطلاقه، يعود مشروع توشكى الخير في جنوب مصر ليصنع واقعًا تنمويًا غير مسبوق في قلب الصحراء، جامعًا بين استصلاح الأراضي، والإنتاج الزراعي، والتكامل الصناعي، وتحقيق الأمن الغذائي، في نموذج يعكس تحول الأحلام المؤجلة إلى حقائق ملموسة.

توشكى الخير
السيد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في زيارة تفقدية لمشروع توشكى – أرشيفية

انطلاقة طموحة في التسعينات

أُطلق مشروع تنمية توشكى في يناير 1997 خلال عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، بهدف إنشاء دلتا زراعية جديدة موازية لوادي النيل، عبر نقل مياه بحيرة ناصر إلى الصحراء الغربية من خلال ترعة الشيخ زايد، بعرض 200 متر، وتتفرع إلى أربعة أفرع رئيسية. وقد استُهدِف حينها استصلاح 1.5 مليون فدان خلال 20 عامًا، بتكلفة تقديرية بلغت 300 مليار جنيه، على أن تبدأ المرحلة الأولى باستصلاح 500 ألف فدان.

إعلان

وركّزت الرؤية على استخدام مياه النيل والمياه الجوفية لزراعة مليون فدان، وإنشاء مجتمعات زراعية صناعية جديدة، وربط المنطقة بشبكات طرق حديثة، وتشجيع السياحة والسفاري في جنوب الوادي.

تعثر التنفيذ وتحول الحلم إلى مشروع مجمّد

رغم الطموحات الكبيرة، اصطدم المشروع بتحديات مالية وهندسية. فحتى عام 2010 لم تتجاوز المساحة المزروعة فعليًا 6.6% من الأراضي المخصصة. وتسبب نقص التمويل في توقف حفر بعض فروع الترعة، وتعثر تشغيل فرعها الرابع، بينما بقيت عشرات الآبار غير مستغلة، وتعطلت المستعمرات السكنية المخطط لها.

توشكى كما تظهر من الأقمار الصناعية في 2010 – تظهر المساحة المزروعة ضئيلة للغاية

أنفقت الدولة نحو 6 مليارات جنيه دون تحقيق عائد فعلي، وتحولت توشكى إلى مشروع شبه مجمّد مع دخول الألفية الجديدة وتغير أولويات الدولة.

إحياء المشروع بعد 2014.. توشكى تعود للحياة

شهد عام 2014 نقطة التحول الكبرى، حين قرر الرئيس عبد الفتاح السيسي إعادة إحياء مشروع توشكى ضمن خطة الأمن الغذائي القومي. وجّهت الدولة الموارد والتكنولوجيا لتجاوز العقبات القديمة، بقيادة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية.

السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في زيارة تفقدية لمشروع توشكى وإطلاق مشروع مزرعة التمور – 2019

بدأ تنفيذ خطة موسعة تحت اسم “توشكى الخير”، لتتحول آلاف الأفدنة من الصحراء إلى حقول خضراء منتجة. وتم استكمال شبكات الري، وتفجير الحواجز الصخرية، وتوسيع نطاق العمل بالتعاون مع وزارتي الري والزراعة.

اقرأ أيضا.. مصر تطلق أول مصنع من نوعه في العالم لتحويل جريد النخيل إلى أخشاب.. صور

تطوير البنية التحتية.. من الترع إلى المدن الجديدة

أُعيد تشغيل محطة طلمبات توشكى (مبارك) بكامل طاقتها، بضخ يومي يبلغ 25 مليون متر مكعب، مع تشغيل 21 وحدة رفع رئيسية بتكلفة 1.48 مليار جنيه. وتم تبطين الترع الفرعية، وإنشاء قناطر تنظيمية، واعتماد تقنيات ري حديثة كالتنقيط والمحوري.

توشكى الخير
الرئيس السيسي يوجه بإعادة إحياء توشكى من جديد

وترافق ذلك مع إنشاء شبكة طرق جديدة تربط المشروع بأسوان والوادي الجديد، وإحياء مدينة توشكى الجديدة التي بدأت تشهد نموًا تدريجيًا مع تزايد الاستثمارات واستقدام العمالة.

طفرة في استصلاح الأراضي حتى 2025

قفزت المساحات المزروعة من 40 ألف فدان فقط عام 2014 إلى نحو 600 ألف فدان فعليًا بنهاية 2023. ويستهدف المشروع الوصول إلى 1.1 مليون فدان مستصلحة في توشكى خلال الفترة المقبلة.

توشكى الخير
المساحة المزروعة في توشكى في عام 2015 كما تظهر من الأقمار الصناعية

وتضم المنطقة اليوم أكبر مزرعة نخيل في العالم، تمتد على 37 ألف فدان، وتضم نحو 2 مليون نخلة، دخلت موسوعة جينيس، وأسهمت في تقدم مصر لتصبح أكبر منتج للتمور عالميًا.

توشكى الخير
المساحة المزروعة في توشكى كما تظهر من الأقمار الصناعية بتاريخ يوم 12 مايو 2025

إنتاجية عالية من القمح ومحاصيل تصديرية واعدة

بحلول 2023، تم زراعة نحو 500 ألف فدان من القمح في توشكى، بإنتاج سنوي يفوق مليون طن، ما يمثل دعمًا كبيرًا لمخزون القمح المحلي. وزُرعت أيضًا 100 ألف فدان بالذرة، إلى جانب محاصيل تصديرية مثل البطاطس والفول السوداني والعنب والمانجو والليمون.

المشروع أثناء تركيب أجهزة الري

وتمت تجربة زراعات النباتات الطبية والعطرية، مع التركيز على أصناف قمح عالية الإنتاجية مثل “جيزة 168” و”مصر 2000”، ما عزز غلة الفدان وفتح آفاقًا جديدة للتصدير.

توشكى الخير

توشكى والأمن الغذائي المصري

يُعد المشروع اليوم أحد أعمدة استراتيجية الدولة لتحقيق الأمن الغذائي وتقليل فاتورة الاستيراد. فقد أسهم في تقليل اعتماد مصر على القمح المستورد، ووفّر مصادر محلية للأعلاف، ودعم الصناعات الغذائية والزيوت النباتية.

مزرعة النخيل بتوشكى بعد زراعتها

كما أن الدولة أنشأت صوامع غلال ومجففات للذرة ضمن المشروع لتقليل الفاقد وتوفير التخزين الآمن، وبدأت منتجات توشكى تدخل في منظومة التموين والأسواق المحلية.

توشكى الخير
مزرعة النخيل اليوم

استثمارات عربية ومحلية كبرى

استقطب المشروع استثمارات عربية منذ بدايته، كان أبرزها من الأمير السعودي الوليد بن طلال، ثم لاحقًا من شركات إماراتية وسعودية كبرى مثل “الراجحي الدولية” و”الظاهرة الزراعية”. كما أسهمت شركات مصرية حكومية وخاصة في استصلاح عشرات الآلاف من الأفدنة.

أثناء تركيب مضخات المياه العملاقة لنقل المياه

يعمل بالمشروع اليوم أكثر من 160 جهة زراعية وهندسية، ويشارك فيه نحو 35 ألف شاب مصري، ما يجعله أحد أكبر مصادر التوظيف في صعيد مصر.

الصناعات الزراعية.. من الخشب إلى التمور

توسعت توشكى لتشمل صناعات مرتبطة بالزراعة، أبرزها مصنع أخشاب MDF/HDF الأول من نوعه في العالم المعتمد على مخلفات جريد النخيل. يُقام المصنع بتكنولوجيا ألمانية (ديفنباخر) بطاقة 400 م³ يوميًا، ويُتوقع تشغيله في خريف 2025.

مصنع أخشاب توشكى الجديد

كما يجري إنشاء مصنع للمواد اللاصقة (الغراء) بطاقة 80 طن/يوم بالتعاون مع شركة فيزر الألمانية، إلى جانب مصنع تعبئة وتغليف للتمور وخطوط تجفيف الذرة، ومشروعات محتملة في التقاوي والإنتاج الحيواني والاستزراع السمكي.

توشكى الخير
الذرة الصفراء من حقول توشكى الخير

أثر اقتصادي واجتماعي ملموس

ساهم المشروع في خفض معدلات البطالة في الصعيد وخلق فرص استقرار جديدة عبر إقامة مجتمعات عمرانية قريبة من مواقع العمل. كما تحسنت الظروف المعيشية في جنوب الوادي، وارتفع الناتج المحلي الزراعي، وتزايدت الصادرات الزراعية، ما انعكس إيجابًا على الميزان التجاري المصري.

السيلاج لإنتاج أعلاف الحيوانات بالتخمير اللاهوائي

في الوقت نفسه، تحسنت البيئة نتيجة زيادة الرقعة الخضراء، وبرزت توشكى كنموذج تنموي قابل للتكرار في مناطق صحراوية أخرى كالدلتا الجديدة.

أثناء تغليف السيلاج بماكينات متطورة

من الرؤية إلى الإنجاز

بعد سنوات من التوقف، يعود مشروع توشكى في 2025 ليؤكد أن الإرادة السياسية والتخطيط العلمي قادران على تغيير الجغرافيا والواقع الاقتصادي والاجتماعي في مصر. لقد تحوّل الحلم المؤجل إلى نموذج حيّ لاستصلاح الأرض، وتوطين السكان، وتحقيق الأمن الغذائي، في واحدة من أبرز قصص النجاح التنموي في الشرق الأوسط.

توشكى الخير
توشكى الخير

إعلان
زر الذهاب إلى الأعلى